ما يدور في الساحة السياسية يقود إلى أن السودان يعيش أزمة قيادة حادة؛ فالقيادات السياسية الموجودة على الساحة، فهي إما جاءت عن طريق الوراثة، والقيادة لا تورث، وإما قيادات مصنوعة والقيادة أيضاً لا تصنع!! والقيادة الموروثة في السودان هي كذلك مصنوعة، صُنعت لتخلق توازناً طائفياً، يطغى على الفكر السياسي الحديث؛ فالطائفية حرصت على إبقاء مريديها على درجة من الجهل والأمية جعلت من أولئك المريدين رهن إشارتها، الأمر الذي أجبر الطبقة المتعلمة على اللجوء إليها!! لا أحد يجرؤ على الترشح في الانتخابات إلا بعد مباركة السيدين، وعلى هذا المنوال تكونت أحزابنا السياسية وألصقت بنفسها صفة الديمقراطية، في حين أن القرار الحاسم المصيري يتخذه شخص واحد يبصم عليه السياسيون مدعي الديمقراطية، وهكذا سارت الحياة السياسية بمباركة السيدين!! ظاهرياً يختلف السيدان وفي باطنهما متفقان على المصالح التي تُبقي كلاً منهما سيداً، كما رُسم لهما ليخلقا التوازن، فطغيان أحدهما على الآخر يعصف بالاثنين معاً!! وسارت البلاد على هذا النهج حتى حين استلمت الحكم النظم العسكرية؛ فالنهج الذي انتهجته النظم العسكرية كان يشير إلى صنع قيادة تحل مكان القيادات الطائفية المتنفذة، فظهرت شعارات الرئيس القائد، والمفدى وقائد المسيرة والجميع جنوده للتغيير!! وحتى تكتمل صورة القائد المصنوع تتشكل بعض المراكز تعرف بمراكز القوى تعمل لمصالحها، تختلف فيما بينها وتصطرع، ولكنها جميعاً تتفق على أمر واحد وهو إبقاء الرئيس رئيساً قائداً للمسيرة وهو قانع بقيادته المصنوعة فقد كان قبلها أمراً لا يُذكر!! واللاعب الأساسي في السياسة السودانية وسيبقى كذلك هو الدين، فالطائفية ارتكزت على الدين وحتى نظام نميري الذي بدأ يسارياً مناقضاً للدين، عاد و«تدين» حتى يُرضي الشعب المتدين بالفطرة.. استلم الإسلاميون الحكم، واستبشر الكثيرون بذلك ونال النظام أول الأمر تأييداً كبيراً من المواطنين الذين كان أملهم الخروج من الأزمات التي كانوا يعيشون، وقد ضحوا بالكثير وقدموا الغالي والنفيس كي تتحقق الشعارات المرفوعة والمعلنة إرساءً لدولة الإسلام والتي قدموا من أجلها أرواحهم وفلذات أكبادهم، لكن الأمور عادت سيرتها الأولى، ونشأت طائفة سياسية لم تنسَ أن تصبغ على نفسها صفة الدين؛ فالدين هو العامل المشترك وهذه الطائفة السياسية الدينية خطط لها أن تكون بديلاً للطائفة الدينية وهي تتميز عليها باجتذابها الطبقة المستنيرة والمتعلمة، لكن صورة الطائفية التقليدية لم تفارقها فأصبح السيد في الطائفية التقليدية شيخاً في الطائفية الحديثة! لكن الملاحظ في مجريات السياسة السودانية أن العداء بين الأنظمة التي انقلبت على الطائفية التقليدية وحاربتها نجدها في آخر الأمر تلجأ لها صاغرة، والسبب في هذا التحول هو فشل الأنظمة في إبراز زعيم حقيقي يكون بديلاً لزعماء الوراثة الذين أيضاً لم يكونوا حقيقيين بل تم صنعهم لإحداث توازن ليس سياسياً بقدر ما هو لمصلحة السيدين لا الشعب! ولجوء الأنظمة إلى الطائفية التقليدية في كل الحالات سببه الإخفاق في صنع سيد أو شيخ بديل وكما ذكرت فإن القيادة لا تُصنع، فهي قبل كل شيء موهبة إلهية إن لم تتمسك بالهدى الإلهي خسرت كل شيء كانت هذه القيادة سيدًا أم شيخاً.. وهكذا وفي ظل التخبط وسوء القيادة أو قل غيابها، نجدهم في كل مرة تعود ذات السيرة في شكل مصالحة وطنية أو حكومة عريضة، يشارك فيها السيدان الشيوخ ويقدمون لهم أعز ما لديهم، وينتج عن الاتفاق «المصلحي» حكومة مخيبة للآمال كمثل ذلك الذي كان ينتظر مولوده الأول على أحر من الجمر ولكنه أحبط لأقصى حد؛ فالمولود كان مونغولاً «أي متخلفاً» يكلف إبقاؤه على قيد الحياة كثيراً.. في ظل هذا الجو السياسي المضطرب، ما المصير؟! ربيع عربي؟! ليس في فصول السودان ربيع، وهذا ما نفته أمريكا مصمم ذلك الربيع، والربيع العربي حق أريد به باطل، فالملاحظ أن كل ثورات الربيع العربي وخاصة في مصر تفتقر إلى القيادة، شباب ثائرون ثورة سلمية تم تدريبهم في أوربا وأمريكا على تكنولوجيا الاتصالات، وكانت شركة قوقل هي القائد الحقيقي لهذه الثورة.. وحين قطعت القيادة المصرية الاتصالات قامت قوقل بمد الشباب بأرقام هواتف تصلهم مباشرة بالأقمار الاصطناعية وعادت الاتصالات بأقوى مما كانت عليه. شباب متحمسون أهدافهم وشعاراتهم نبيلة استطاعوا اجتذاب الشعب إليهم ولكنهم يفتقرون إلى القيادة، فالقيادة ستمدهم بها أمريكا لاحقاً فلديها مخزون لا ينضب من العملاء كانوا يرأسون منظمات عالمية وخبراء في مراكز الأبحاث الأمريكية والجامعات!! وما لم تفطن إليه أمريكا أن شعوبنا تتمسك بالقيادة التي تتفاعل معها في الشارع، وهذا ما قامت به قيادة الإسلاميين في مصر وتصدرت به قوائم الانتخابات. ولأن مصر دولة محورية، لم تنس أمريكا أقوى المؤسسات فيها وهي الجيش وهو أهم عناصر اللعبة السياسية، قياداته كانت أول أيام الثورة في أمريكا، وهي التي أرغمت مبارك على التنحي، ولكي تظل الأمور في مصر على الخط الذي رسمته أمريكا، تم تشكيل مجلس استشاري يحل مكان البرلمان المنتخب ويجعل منه مجرد صورة. الأمر في السودان يختلف ولا يحتاج لثورة أو ربيع عربي، والمراد للسودان أن ينهار كما حدث للصومال وسيحدث الآن في اليمن.. فإذا كان شباب مصر قادوا احتجاجات سلمية بلا قيادة فإن في السودان ما هو أخطر، وهو مليشيات مسلحة بلا قيادة، تقوم بالنهب والسلب والقتل دون رادع.. وهذا عين الانهيار!! ومما يساعد على ذلك اللا مبالاة من قبل النظام والشعب معاً، ما عاد هناك ما يدهش أو يثير الحمية، فالجميع ينظرون إلى الوطن نظرة لا مبالاة وهو يتآكل أمام أعينهم وهم ينظرون.. وكان الحل في أيدي من يمسكون بزمام السلطة وذلك بتشكيل حكومة حقيقية تبني ما تهدّم حكومة قوامها التكنوقراط فالشعب يريد أن يزرع ليأكل ويريد أن تنقل محاصيله للأسواق بواسطة ناقل أمين ورخيص وهو السكة الحديد، ويريد أن يجد المراعي لتعود إليه ثروته الحيوانية بالنفع لكنه استبدل أسيادًا بشيوخ وتردَّى حاله إلى ما نرى.. وليس هناك حاجة لربيع عربي طالما أن النظام يقوم بذات الدور المنوط بذلك الربيع!!