أستأنف الحديث عن صفات الداعية وفي الحلقة الماضية ذكرت بعض الصفات المهمة التي ينبغي أن توجد في من يقوم بالدعوة إلى الله تعالى، ومن تلك الصفات التي ذكرتها «العلم» .. وهذه الحلقة والتي تليها ألقي فيهما الضوء على بعض الجوانب المهمة التي تتعلق ب«العلم» الذي ينبغي أن يجتهد الداعية في تحقيقه. وهذه الحلقة هي في بيان أهمية تعلم الداعية لهدي النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله .. فإن خير الهدي هديه عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا الله تعالى باتباع سبيله والاقتداء به .. فهو إمام الدعاة وقائدهم وقدوتهم .. وأفضل من دعا إلى الله تعالى .. والحلقة القادمة تكون إن شاء الله في أهمية إدراك الداعية ل«مقاصد الشريعة» في الدعوة إلى الله .. وحسبي في هذه الموضوعات المهمة إشارات موجزات تقتضيها المساحة المتاحة في هذه المقالات، وإن هدي النبي المصطفى الرحمة المهداة مما تسعد النفوس بالتذكير به.. فإن من هديه عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله: 1 أنه عليه الصلاة والسلام استجاب لأمر الله عندما أمره بالدعوة إليه «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » وقال تعالى: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» فالنبي صلى الله عليه وسلم استجاب لأمر الله عز وجل وصدع بما أمره الله به ولا يخفى عظم هذا الأمر خاصة في ذلك الوقت. كما أنه واجه بالدعوة الأقربين له امتثالاً لأمر الله تعالى، وفي هذا أن الداعية ومن يدعو إلى الله ينبغي ألّا يشغله الناس عن أهله وأقاربه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» فأولى الناس بالدعوة بعد «نفس الداعية» هم الأقربون ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما صعد في جبل الصفا ونادى بعض قرابته وكان يردد: لا أغني عنك من الله شيئاً، وللأقربين وغيرهم حقوق في الدعوة يجب التنبه لها، كما أن استجابته عليه الصلاة والسلام وسرعته فيها تبين للدعاة أهمية الانشغال بالدعوة ونشرها والسعي والحرص في تبصير الناس وتوضيح الحق لهم وتحذيرهم من الباطل بأنواعه وأشكاله. 2 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب بدعوته الرجال والنساء والصبيان والمشركين والمؤمنين والطائعين والعصاة.. وغيرهم، فلم ينشغل ببعض المدعوين ويترك الآخرين!! فلم يكن اهتمامه بطائفة معينة كالشباب مثلاً !! أو الأغنياء دون سواهم !! فكانت دعوته لكل الناس، لم يكتف بالرجال بل جعل يوماً للنساء يعظهن فيه، ولما خطب الرجال في خطبة العيد انصرف إلى النساء ووعظهن وأمر النساء أن يخرجن إلى المصلى في العيد ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.. وكذلك كانت دعوته للمشركين والصبيان، يزور غلاماً يهودياً يدعوه إلى الإسلام ويقول بعد أن نطق بالشهادة، الحمد الله الذي أنقذه بي من النار فالدعوة تشمل الكل وهذا شأنه عليه الصلاة والسلام، الغني والفقير والمشهور بين الناس وغير المشهور وإنك تعجب لما تعلم أن بعض من يقوم بالدعوة يخص بها أقواماً أو أصنافاً معينين من الناس ويدرس ويعلم في أحياء معينة ولا تعرفه أحياء كثيرة من الأحياء الفقير أهلها!! وقد تكون حاجتهم أشد من حاجة من انشغل بهم. 3 أن النبي صلى الله عليه وسلم صبر في دعوته إلى الله فقد ذاق أنواعاً من الأذى، فصبر واستجاب لأمر ربه فقد أمره بقوله: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» واجه الأذى الحسي والمعنوي. فمن الأذى الحسي: كسرت رباعيته وترُقوته وغارت حلقتا المِغفر في خده .ضربه في يوم أُحُد، كما أن أهل الطائف آذوه لما ذهب إلى ثقيف وغيرها . ومن الأذى المعنوي: فقد كاده المشركون بأنواع من الكيد، قالوا إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وغير ذلك مما ذكر في القرآن الكريم: «أم يقولون ساحر نتربص به ريب المنون» «ولقد استهزئ برسل من قبلك» .وكانوا يقولون إنه أبتر «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» وغيرها. وكل من يدعو إلى الله فإنه بأمس الحاجة لأن يتزود بالصبر ولا بد له أن يتخلَّق به وبالحلم وغيرهما من هذه الصفات الضرورية. 4 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً في دعوته رفيقاً بأتباعه وكان حريصاً على هداية الناس وقد قال الله تعالى: «لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» ومعنى «عزيز عليه ما عنتم»: يشق عليه أن يراكم تنحرفون أو تضلون «حريص عليكم»: أي على هدايتكم واستقامتكم. لذلك لم يخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرها مالم يكن إثماً ولم يكن يكلف أحداً بما لا يستطيعه وما هو فوق طاقته، بل قعد قاعدة عامة هي من مظاهر الرحمة في هذه الشريعة حيث قال «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». 5- اهتم عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى أساس هذا الدين وركنه الأعظم: التوحيد والإيمان بالله.. فدعا إلى التمسك بالمعتقد السليم والاستقامة عليه وحذر من الشرك بكل صوره وأنواعه كبيره وصغيره، وهذا ما اتفق عليه كل الأنبياء.. فحذر عليه الصلاة والسلام هذه الأمة من الوقوع في الإشراك بالله تعالى ونهى عن اتخاذ آلهة أو أنداد مع الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أنه نهى وحذر من خطورة الغلو فيه عليه الصلاة والسلام.. ومما قال في ذلك : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله» .أيضاً للذي قال «ما شاء الله وشئت» قال له: «أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده». فقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة والتوحيد وتصحيح المعتقد لأن الإنسان لا يُفلح إلا إذا كان إيمانه صحيحاً ومعتقده سليماً وهذا ما كان يكثر من توضيحه وبيانه حتى إنه في فراش الموت يحذر من الضلال والانحراف فيه. 6 راعى عليه الصلاة والسلام في دعوته الأولويات فجعل الجانب الأهم قبل الجانب المهم فقدم ما حقه التقديم، وما يمكن أن يؤخره أخره. لذلك يقول لمعاذ رضي الله عنه «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم».. ولم يكن في «العهد المكي» الكثير من الأحكام كالصوم والزكاة والحج والصدقة وغيرها، وإنما كان التركيز على تقرير التوحيد وإبطال الشرك. 7 كان يستغل عليه الصلاة والسلام كل الوسائل التي تتاح له في الدعوة إلى الله فكان يخطب خطبة الجمعة وكان يخطب في غير الجمعة، وكان يزور من يدعوهم ليبلغهم دين ربه عز وجل، وكان يرسل الرسائل بل كما أخبر أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل ملك الروم وكتب إلى كسرى ملك الفرس وإلى النجاشي ملك الحبشة وكتب إلى كل عظيم يدعوهم إلى الله. أرسل الرسل عليه الصلاة والسلام ودعا إلى الله عز وجل وهذا من باب استغلال الوسائل التي تتاح للداعية.. فالداعية ينبغي له أن يستغل الوسائل المشروعة التي تُتاح له في دعوة الناس إلى الله وفي نصحهم وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحلقة القادمة إن شاء الله موضوعها: «مقاصد الشريعة في الدعوة إلى الله ونماذج لعدم إدراك بعض الدعاة لتلك المقاصد أو بعضها»..