راجت في الأسبوع الماضي أنباء عن مذكرة تصحيحية يزمع البعض رفعها لرئاسة الدولة وأعلن أنها ستُطرح للنقاش في الاجتماع القادم لهيئة شورى الحركة الإسلامية ومن ثم يُقدم ما يتم التوصل إليه للمؤتمر العام للحركة الإسلامية في شهر أغسطس القادم «أي بعد سبعة أشهر بالتمام والكمال!!!» وتم نشر المذكرة في صحيفة الإنتباهة الغراء قبل خمسة أيام وذهبت بذكر محتوياتها الركبان وقرأنا الحوارات والمقالات والأعمدة التي كُتبت عنها في الصحف. وشهدت الأيام التي سبقتها مناوشات وملاسنات حادة بين اثنين من قادة المعارضة أثارت ضجة وسط الشارع السوداني العريض وكانت حديث المجالس وكان المفترض أن تثير المذكرة المشار إليها اهتماماً أكبر من تلك وسط الرأي العام السوداني لأنها تتناول شأناً عاماً لا أمراً يتعلق بشخصين مهما كانت مكانة كلٌّ منهما في حزبه ولكن الذي يتلمس نبض الشارع يتأكد بلا كثير عناء أن الحديث عن هذه المذكرة يأتي عَرَضَاً في المجالس لأنها في تقدير الكثيرين لم تأت بجديد مفيد وما طرحته ظلت تتناوله الصحف ويتناقله الناس في مجالسهم وكافة ملتقياتهم، والمهم هو الإتيان بجديد والوقوف على الداء والتوصية بالدواء الناجع في نقاط محددة بلا تهويم نظري ومقدمات لا تُغني ولا تسمن من جوع. وقيل إن المذكرة ستُرفع للحركة الإسلامية التي لم يصدر عنها أي رد فعل ولكن ردود الفعل والتعليقات صدرت عن عدد من المنتسبين لحزب المؤتمر الوطني. والملاحظ أن الكثيرين يتبوأون مواقع في الحزب وفي الحركة والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها هنا.. وهناك من يشغل موقعاً تنفيذياً في الدولة وموقعاً قيادياً بالحزب وموقعاً قيادياً بالحركة وموقعاً تشريعياً بعضويته في المجلس الوطني. وبالطبع إن هناك ثمة علاقة بين الحزب والحركة، والمعروف أن الأحزاب العقائدية اليسارية فيها تنظيمات أو مجموعات طليعية. والحزب الشيوعي في السودان تولى سكرتاريته العامة وزعامته الأستاذ عبد الخالق محجوب في أواخر أربعينيات القرن الماضي وهو في الثانية والعشرين من عمره بعد قطعه لدراسته لأسباب صحية وعودته من القاهرة، ولما أدرك الشيوعيون ضآلة عددهم وضمور وضعف عضويتهم أصبحوا هم الحزب الطليعي المستتر وأقاموا الجبهة المعادية للاستعمار وعهدوا سكرتاريتها للأستاذ عبد الرحمن الوسيلة عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وفيما بعد أقاموا الجبهة الديمقراطية لتوسيع قاعدتهم وسط الطلاب عندما أدركوا أن عدد الشيوعيين الملتزمين عضوياً قليل. وعند حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان أراد الشيوعيون الالتفاف حول هذا القرار وسعوا لتكوين حزب يحمل اسماً آخر هو الحزب الاشتراكي واقترحوا للجنته القيادية كوادر من الصف الثاني ورشحوا الأستاذ أمين الشبلي المحامي ليتولى أمانته العامة وقبل إعلان ميلاد هذا الحزب زار الأستاذ عبد الخالق محجوب موسكو وعند عودته أعلن وأد فكرة ذلك الحزب وأخذوا يعملون تحت مظلة تحالف قوى اليسار العريض.. وفي مصر الناصرية أقاموا الاتحاد الاشتراكي وكان للناصريين تنظيمهم الطليعي وعلى رأسه مجموعة منتقاة. وبالنسبة للحركة الإسلامية في السودان فقد بدأت تنتظم في أواخر أربعينيات القرن الماضي بعد عودة بعض الطلبة الذين يدرسون في مصر في إجازاتهم أو عند إكمال دراستهم وبدأ نشاط الحركة بالداخل في كلية الخرطوم الجامعية وفي المدارس الثانوية على قلة عددها آنذاك واتخذت عدة أسماء مثل حركة التحرير ثم عُرفت بعد ذلك باسم تنظيم الإخوان المسلمين وكان أول أمير للجماعة هو الشيخ علي طالب الله وآلت الإمارة بعد ذلك لفترة للأستاذ محمد خير عبد القادر وتولى الإمارة أيضاً الأستاذ الرشيد الطاهر بكر منذ أن كان طالباً في سنته النهائية بكلية الخرطوم الجامعية وبعد ثورة أكتوبر وخروج الأستاذ الرشيد من السجن الذي أمضى فيه خمسة أعوام أخذ عليه أعضاء التنظيم أنه تصرف بمفرده ولم يشاورهم في الانقلاب العسكري الفاشل الذي اشترك فيه وعند إجراء الانتخابات لاختيار أمين عام للتنظيم رشح لهذا الموقع الأستاذ الرشيد الطاهر والدكتور حسن الترابي عميد كلية القانون الشاب الذي لمع اسمه وأضحى نجماً في ثورة أكتوبر وفاز هو بالموقع وكان منذ البداية من دعاة الانفتاح وكونت بعد انتخابه جبهة الميثاق الإسلامي التي كانت تضم الإخوان المسلمين وأنصار السنة وعدد من شيوخ الصوفية. وفي مارس عام 1969م كاد يحدث انشقاق في المؤتمر العام للتنظيم بين دعاة التركيز على التربية والأسر وبين دعاة الانفتاح مع عدم إهمال التربية ما أمكن ذلك بين المنتمين للتنظيم الذي هو جزء من الجبهة، ولئلا تحدث ازدواجية وثنائية جمع الأمين العام بين قيادة الجبهة وقيادة التنظيم وأعلن قُبيل قيام نظام مايو أنه سيسجل زيارة لمصر على عهد عبد الناصر أي أنه منذ ذلك الوقت كان يفكر في اتخاذ مسار مستقل عن تنظيم الإخوان المسلمين بمصر ولكن تلك الزيارة لم تتم لوقوع الانقلاب العسكري، ومما هو جدير بالذكر أن مرشد الإخوان الأسبق الأستاذ الرشيد الطاهر استقال من تنظيم الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق الإسلامي في منتصف عام 1965م وانضم للحزب الوطني الاتحادي وسجل زيارة لمصر وعند عودته أشاد بمصر الناصرية وكان خليفته في التنظيم يريد أن يسجل زيارة مماثلة ولكن بمنطلقات ودوافع مختلفة. وبعد قيام نظام مايو اعتُقلت قيادات الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق الإسلامي وتم إعفاء الكثيرين من الخدمة وإحالتهم للتقاعد القسري وركز التنظيم على العمل السري والترابط الاجتماعي مع إبداء اهتمام فائق بأسر المعتقلين، وركز المنتمون إليه عملهم في الجامعات والمدارس ونظموا حركة شعبان عام 1973م «ثورة ود المكي» وبدأت كوادر التنظيم تنضم لمعسكرات تدريب عسكري مقفولة خاصة بهم في ليبيا واشتركوا في حركة الثاني من يوليو عام 1976م. ثم جاءت مرحلة المصالحة والمصانعة والاجتهاد في بناء التنظيم وخلق منظمات موازية في عهد مايو كشباب البناء مع العمل التنظيمي الدؤوب وسط النساء والطلبة والشباب والسعي الجاد لبناء المؤسسات المالية وتدريب الكوادر وبعثها للخارج والاهتمام بالإعلام والصحافة وظهر كتاب وأكاديميون ومفكرون لهم بصماتهم وتأثيرهم. وبعد الانتفاضة وفي ظل الجبهة الإسلامية القومية حدثت طفرة تنظيمية هائلة وتلك مسيرة طويلة مثيرة ولكن يستوقف المرء أن الأمين العام في كتابه عن سيرة الحركة الإسلامية وكسبها أشار إلى أنهم ظلوا محافظين على التنظيم مع حذرهم من كثير من الانتهازيين النفعيين الوافدين الجُدد على حد تعبيره ووصف البعض بأنهم «عوام» وفي هذا استفزاز واستخفاف بأناس لهم فضلهم وكسبهم، ولعل الغرض من استقطابهم هو تكبير «الكوم» أي أن الجبهة بشهادة أمينها العام كانت تضم أعضاء لا علاقة لهم بالتنظيم. ثم جاءت مرحلة الدولة والتمكين والمسيرة الطويلة الوعرة وهذا ما سأفرد له الحلقة القادمة مع وقفات مع النقاط التي أثارتها المذكرة.