شاهدت في أمسية الثلاثاء على قناة الجزيرة برنامج الاتجاه المعاكس، إنه البرنامج الذي اعتمد صاحبه (فيصل القاسم) أسلوب الحوار المستفز الذي يحفّزُه المقدم على طريقة (المديدة حرقتني) فيأتي الحوار في هيئة صراخ وشتائم، وعلى أي حال، ربما لهذا السبب بالذات يشاهده المشاهدون. الحلقة كانت تحت عنوان: هل الثورة في السودان وشيكة؟ والمثير أنّ التصويت المصاحب للحلقة رجّح بنسبة ضئيلة احتمال اقتراب الثورة في السودان، ولكن لم يسبق أن رأيت في إستفتاءات الجزيرة استفتاءً تقاربت نتائجه بهذه الدرجة، ما علينا، شاهدت وسمعت علي محمود حسنين وحاج ماجد سوار في تلك الحلقة، ولم أُعجب بما سمعت وشاهدت، بدأ الأخ حاج ماجد هجوماً كاسحاً من أول الحلقة، وخُيّل إليّ أني أرى لحظتها حاج ماجد في ركن نقاش في جامعة الخرطوم قبل عشرين سنة، لم يحسن الأخ حاج ماجد طرح قضية الإنقاذ ودفوعاتها وركّز على التجريح الشخصي لمحاوره ولم يكن الأمر يستحق ذلك، وتمنيت لو قال أننا لا نتحدث عن جهد ملائكي، بل عن جهد بشري يختلط فيه الصواب بالخطأ، والخطأ بجهد التصويب، فالإخفاق أو النجاح، وأننا بالرغم من اعترافنا بالتقصير نزعم أن إنجازنا أكبر بكثير وبما لا يقارن بما أنجزته الحكومات السابقة منذ 56 حتى 89 وبيننا الأرقام، وأنّ هذا هو مربط الفرس بالنسبة للشعب السوداني. وليته ذكر في أمر انفصال الجنوب أنّ حرب الجنوب بدأت قبل أن يكون في السودان حكومة سودانية، وأن الحكومات المتعاقبة فشلت في إيقاف الحرب لأن مطلب الجنوبيين هو الانفصال منذ ما قبل الاستقلال، وأنّ كل ما فعلته الإنقاذ هو أن امتلكت شجاعةَ أن تمنح الجنوبيين مطلبهم. إنّ الأخ حاج ماجد عندما سأله مقدم البرنامج عن الأزمة الاقتصادية في السودان بدأ إجابته في اتجاه صحيح، ذاكراً أنّ أوروبا تعاني الآن وأمريكا كذلك من الهزة الإقتصادية، ولكن القاسم هاجمه بطريقته المستفزة قائلاً: (بربك هل هذه إجابة؟ تقارن السودان بأوروبا) وكان يمكن لحاج ماجد أن يلقم القاسم حجراً إذا أصرّ على مقاصد قوله، وهو أنّ السودان ذو اقتصاد صغير وقد تأثّر كما تأثّر كل العالم بأزمة المال العالمية، وإنه إنْ كان اقتصاداً في دولة أخرى لانهار لا محالة حين خرج البترول من موازنته ولكنه ما زال متماسكاً وإن كان مريضاً ومثقلاً بالآلام. أيُّ اقتصاد يصمد وهو محروم من أيّ قرض أو معونة غربية؟ أيُّ اقتصاد يصمد وهو ممنوع من أي تعامل مع الشركات الأوروبية والأمريكية؟ ومحرم على هذه الشركات ليس فقط الاستثمار في السودان، بل ولا حتى بيع قطعة غيار لطائرة أو مركبة أو مصنع في السودان! كان يمكن القول أن اقتصاداً حاصرته أمريكا والغرب منذ عشرين عاماً مانعةً عنه الماء والهواء بغرض خنقه هو ذاته الاقتصاد الذي ظلّ يحقق نِسَب نمو أدهشت صندوق النقد الدولي، ولكنه الآن يمر بوعكة لأسباب مفهومة ومعلومة، خارجيّة تأثّرت بها أقوى الاقتصادات، وداخلية فرضتها ظروف الانفصال، وسيتعافى منها بإذن الله. القصد، لا يمكن هنا استقصاء هذه الحلقة من البرنامج، وقد ضربنا الذكر صفحاً عن الحديث الفقير الذي قاله الرمز المعارض حسنين. أما الأخ الفاضل حاج ماجد سوار فلم يكن المحاور الأمثل في ذلك البرنامج، وعلى أيّ حال فلم نعرف حاج ماجد رجل أقوالٍ وحوارات، بل رجل أفعال ومواقف. أمّا أطرف ما جاء في الحلقة فكان عندما سأل فيصل القاسم علي حسنين عن الحريات الإعلامية في السودان، إذ قال الدكتور فيصل إنه زار السودان مؤخراً وإنّ حرية الإعلام والصحافة فيه تسبق الدول العربية بسنوات ضوئية، وكررها قائلاً «بسنوات ضوئية!» وأنّ سجونه فيها معتقل سياسي واحد (وقد اندهشت أنا نفسي للمعلومة) ثم أكد على هذه النقطة قائلاً:»معتقل واحد فقط وتقول النظام دكتاتوري؟؟!» فكانت إجابة حسنين:»هذا النظام لا يعتقل كثيراً ولكنه يقتل»!!! (يعني الحكومة تأخذ معارضيها من داخل المظاهرات إلى ساحات الإعدام رأساً.. عجبي!! عزيزي حسنين إن الشعب السوداني صاحب أكبر خبرة في الثورات، وفي الماضي لم ينتظرك أنت ولا أمثالك لإشعال ثورتيه في أكتوبر وأبريل وإنما تسلقتم أنتم وأحزابكم على ظهر هذه الثورات كما تفعلون دائماً. لقد خَبِركم هذا الشعب وجرّب وجود أحزابكم في السلطة مراتٍ ومرات، فكان حصاده الكثير من الكلام، والقليل من العمل. وسئم الفرجة عليكم وأنتم تلعبون لعبة الكراسي وتكوّنون حكومات الشهر الواحد، وهذا الشعب يقول في أمثاله:(من جرّب المجرَّب حصلت عليهو الندامة). وهو يفضل حكومة تصيب مرات وتخيب أخرى على حكومات لم يرَ منها إلا الخيبة.