الجزيرة الفضائية يحبُّها شعب السودان، لجهة أن هذا الشعب يتنفّس بشكل مختلف كله، يتنفس الحرية ويطلبها بالاسم عنواناً لبقائه على وجه الأرض، والغريب جداً في هذا الكائن ذي السحنة المتدرجة إلى السواد رغم أنها لم تنطلق من غيره... الغريب أنه استطاع أن يبدِّل الفهم السائد لترتيب الشعوب حسب لون البشرة، حيث ساد من غير تكبُّر منه أو تجبُّر على كثير من الشعوب في المحيط العربي والإفريقي.. ساد بالفكر، ولما كان شباب في بلدان عديدة يسهر معظمهم حتى مطلع الفجر في لهو مباح، كان الشباب هنا يدرس تكافؤ القوى بين المسلمين وإسرائيل متخذين من حزب الله أُنموذجاً، ولما كان الشباب في بلدان عديدة يفجرون الثورة... كان الشباب هنا بعد أن تجاوز الثورة بعقود يراجع سبل الوصول إلى القدس وفي ظنه أنه المخاطب بأن:«يا مسلم، خلفي يهودي فاقتله»... والسوداني حبّه للدين وللرسول الكريم يجعل أحدهم يقول:« لو أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مات في السودان، لتدافع الناس نحو صيوان العزاء إلى يومنا هذا»!! ولما كان شعب السودان يحبُّ الجزيرة الفضائية، ويخصص لها من وقته حيِّزاً مقدَّراً، يتابع من خلالها ما لم تستطع أن تلتقطه الكاميرا، ويعيد إلى مخيلته عبرها تجربته في الثورة وإسقاط الأنظمة المستبدة... كانت الجزيرة الفضائية تجهل تماماً أن هناك عيوناً تنظر«بلا حدود».. وآذان تسمع «في الاتجاهات المعاكس».. وعقول تغوص أبعد من «ما وراء الخبر».. ومن جهلها المركب والداعي للشفقة.. تبث الجزيرة الفضائية حلقة عن احتمال قيام ثورة في السودان.. وخلال الترويج للحلقة كان الشعب هنا يغلي ويروِّج بطريقته الخاصة لإسكات هذا التطاوُل وهذا الاستفزاز.. ثم تنطلق الرسائل الداعية للتصويت ب«لا» على الخيار المطروح في الموقع الإلكتروني للقناة، ويتدافع الخلق ليجدوا أن خيار «لا» لا يمكن الوصول إليه، فهو مصمم في الأساس لترجيح كفة «نعم».. وفي العاشرة وخمس دقائق من مساء الثلاثاء، يعجز الرجال والنساء تماماً عن المشاهدة، ذلك لاصطفاف الأطفال أمام الشاشة، وعيونهم يتطاير منها الشرر، ثم سرعان ما يهدأ روعهم كلما ألقم حاج ماجد خصمه الكهل المتصابي علي محمود حسنين حجراً بعد حجر.. العجيب في أمر هذه الحلقة هو الأثر الذي أحدثته في نفس معد ومقدم الحلقة الدكتور فيصل قاسم، إذ بعد أن بدا متحاملاً على السودان، ومتفاعلاً مع حسنين وهو يعكس صورة مغايرة للوضع في السودان، أدهشه هذا الثبات للشاب حاج ماجد سوار وهو يفضح بالحجة والدليل القاطع عمالة وارتزاق علي محمود حسنين، وجهوده الحثيثة والخبيثة لإسقاط النظام بقوة السلاح، وهو يتخفى خلف تحالف الجبهة الثورية، ذلك على الرغم من خلفية الدكتور فيصل الإسلامية وقربه من ملف السودان وما يحاك ضده من تآمر ومخططات تقسيم... وقد أشار إلى ذلك سوار مذكراً إياه بحديث له من قبل، إذ قال قاسم: «إن مصر تحتاج لخمسين عاماً حتى تصل لمستوى الديمقراطية والحرية في السودان»... ويبدو أن ضغوط القناة وتوجهاتها دفعت بالدكتور فيصل للتسبيح بحمدها من خلال هذه الحلقة... لكنه وبسوء تقدير منه سلك طريق الهبوط إذ لم يكن السودان يوماً ما مطيّة للصعود.