ذكرنا في مقال سابق أن محاربة الفقر لم تتموضع موضعها الأنسب على رأس أولويات الحركة الإسلامية وتطرقنا إلى تجربة لولا دي سيلفا بين عامي 2003 2011م في محاربة الفقر وكيف أن نسبة الفقر في البرازيل قد انخفضت من 22% إلى 7% في العام 2009م، ونوهنا إلى أن الانقاذ كان لها مقاربات في قضية دحر الفقر تمثلت في الزكاة والتأمين الصحي ثم التمويل الأصغر بيد أن هذه الجهود لابد لها من تفكير مبدع ومبادرات جريئة وأهم من هذا كله إرادة سياسية تستعين بالله على دحر الفقر إلى أبعد مسافة ممكنة إلى الركن القصي في المجتمع السوداني. الفقر الريفي والفقر الحضري:- والفقر فقران فقر ريفي في الأرياف والبوادي . وهو لا يتصل بالضرورة بنقص الموارد بل بسوء استغلالها . فكم من حائز على عشرات الرؤوس من الماشية وهو يعيش عيش الكفاف لأن ما يملكه لا يُستغل للارتقاء بمستوى المعيشة بل للارتقاء بالوضع الاجتماعي.. وكم من صاحب أفدنة من الأرض كثيرة لا تكاد تخرجه من العسر الاقتصادي . فهو يُعيش عيش الكفاف لأنه لايجهد في استخراج أفضل ما تعطيه الأرض، وكل هؤلاء راضون بمعاشهم لا يستشعرون الحرمان. لأنهم جميعاً سواسية في فقرهم يتكافلون ويتقاسمون القليل وبه يقنعون. بيد أن الفقر في الحضر ليس مثل ذلك فهؤلاء أناس قادتهم ظروف الجفاف أو النزاعات أو طلب التوسعة في الرزق إلى المدائن ولكن أبواب الأرزاق ضاقت عليهم في الحضر بأكثر من ضيقها في البادية والريف، وأفتقدوا روح التقاسم والتكافل. فالمال في المدن مهما كثر ابتلعته الحاجات الاستهلاكية المتكاثرة.. فلا يكاد يفيض عن حاجة أهله ليصل نداه إلى مسكين ذي مسغبة أو فقير ذي متربة. ولذلك فان الفقر الحضري مقترن بالشعور بالحرمان محتقن بالجسد والشنآن. ففي الحضر يلتهي الناس بالتكاثر فلا يكادون يسمعون لجائع أنّة ولا لفقير شكاية. ولذلك فإنه لا غرو أن كانت الحرب على الفقر الحضري هي الحرب الأولى التى يتوجب أن يخوضها الباحثون عن صد طائلة الفقر ودحر غائلته. الحرب على الفقر الحضري:- التشغيل هو أفعل الوسائل في دحر الفقر الحضري. ولذلك فإن سياسات التوسع في تشغيل العاطلين عن العمل رجالاً ونساءً متعلمين وغير متعلمين. خريجين وغير خريجين هي ما يجب أن تكون الأولوية القصوى فى سياسات الدولة الاقتصادية، فالعمل هو باب الكسب الأوسع وأفضل الكسب ما كان إنتاجاً يفلح الأرض فيستخرج خبئيتها أو عملاً صناعياً أو حرفياً يُربي كل أصل مالي بقيمة مضاعفة بالعمل التصنيعي أو الحرفي . وكل ذلك متاح في المدن. بيد ان قطاع الخدمات والتجارة هو أوسع القطاعات في المدائن . وهو باب يمكن ان يتسع لتشغيل مئات الآلاف من سكانها لا يحول دون تشغيلهم إلا الاختلال الكبير في معادلة التمويل والأئتمان. ففي السودان وبخاصة في المدن فان خمس عشرة بالمائة فقط هم من يجد حظوة التعامل مع البنوك. وأقل من هذه النسبة بكثير هم من ينعمون بالتمويل والضمانات المالية البنكية. وإذا أردنا توسيع دائرة التشغيل فلا مندوحة من قلب هذه المعادلة على أقل تقدير.. ولا يمكن قلب هذه المعادلة إلا بادخال غالبية السكان ليكونوا متعاملين مع المصارف.. وقادرين على الحصول على التمويل المناسب لدفع أعمالهم واشغالهم منها. والجواب معلوم معروف وهو التوسع في التمويل الصغير والأصغر والمتناهي الصغر.. والاستفادة من تجارب الدول الناجحة في هذا المضمار.. والتجربة البرازيلية تقف شامخة وكذلك التجربة في الفلبين وفي بنغلاديش.. ودولة جارة حققت نجاحاً سريعاً في هذا المضمار وهي دولة كينيا . والتي استخدمت بنجاح الهاتف السيار ليكون صلة الوصل بين ملايين الكينيين وبين المصارف.. وبينهم وبين شركات التأمين وشركات الخدمات الصحية وغيرها. بحيث لم تمض خمس سنوات حتى أصبح 70% من المواطنين ممن يتعامل مع المصارف. وذلك في الفترة من 2007 2012م حيث حققت تجربة M-PESA «النقود الجوالة» نجاحاً باهراً أذهل كل المراقبين. وأتاح للمصارف الحصول على تمويل هائل من فقراء المواطنين.. وأتاح لقطاع واسع من الفقراء الحصول على قروض صغيرة ميسرة لإنجاح مشروعاتهم الصغيرة التى ما كان لها ان تجده لولا الأفكار المبدعة الجريئة. ولئن كان بنك السودان المركزي قد احتجز نسبة 12% من موارد المصارف للتمويل الأصغر فإن ذلك وحده لن يحقق النجاح . فموارد المصارف محدودة بمحدودية المتعاملين معها.. فلابد من ابتداع الوسائل التي تدخل الملايين إلى عالم التعامل المصرفي.. وقد اكتشفت الفلبين وبنغلاديش والبرازيل وكينيا هذا السر هو استخدام الهاتف السيار «محفظة إليكترونية» بوصله مع حسابات مصرفية.. وباتخاذ تلك الحسابات وسيلة لضمان القروض الصغيرة. وقد أعد البنك المركزي دراسات عديدة لإدخال هذه الخدمة ولكن الأمر يقتضي من الارادة قدراً مكافئاً لما يقتضيه من الدراسة والفحص والفهم. بنك الطعام:- ولئن كان التمويل الأصغر وسيلة ناجعة لتشغيل الفقراء وتمكينهم من التحول لمستثمرين صغار فإن من الفقراء من يعجزه الكدح والكسب.. ولذلك فلابد من دعم هؤلاء دعماً مباشراً.. والاكتفاء بالزكاة لدعم هؤلاء لن يجدي فإن في المال حقاً غير الزكاة وهو حق يتجاوز الزكاة.. وقد ذكرنا في المقال السابق كيف ضرب لولا دي سيلفا سلع الأغنياء بالضرائب ليعود بعائدتها منحاً مباشرة تُعطى للفقراء في ما عُرف بمنحة العائلة. ويا ليت الحكومة التي وضعت قائمة سلبية بالسلع الممنوع استقدامها قد سمحت بدخول هذه السلع وأمثالها من السلع الكمالية.. ولكن بعد مضاعفة الرسوم الجمركية عليها لتعود عائدة تلك الرسوم الجمركية منحاً مباشرة للأسر الفقيرة. ولئن كان منح المال وسيلة من وسائل دعم الفقراء فان العون بالطعام فكرة أخرى عظيمة ناجحة وناجعة تمثلت في انشاء بنوك الطعام. وفي بلد مثل بلدنا تهدر فيها فوائض هائلة من الطعام فان انشاء بنوك الطعام فكرة سوف تصادف نجاحاً باهراً. وتتمثل الفكرة في طواف سيارات بنوك الطعام على الأحياء الغنية وأحياء الأسر المتوسطة الحال قبل أن تطوف عليهم سيارات النفايات.. ويطلب من هذه الأسر وضع حاوية صغيرة من فائض الخبز والطعام لتأتي ناقلات الطعام لحملها لبنوك الطعام.. حيث تهيأ في صورة مناسبة ويعاد تقديمها لأصحاب الحاجة إليها. وقد أذهلت النجاحات الفائقة التي حققتها بنوك الطعام جميع من جربها في شتى أنحاء العالم. ويتوجب أن يجري تثقيف الأسر بحيث يُحفظ فائض الطعام بنية تقديمه لاستهلاكه بواسطة آخرين قد تخرج مسغبتهم مع تخمة الأغنياء الآخرين من ذمة الله ورحمته.. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إيما أهل عرضة باتوا وفيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله» وما أحرى أغنياء الحركة الإسلامية ان ينهضوا لتأسيس وإنشاء مثل هذه المشروعات، وما أحرى نشطائها أن ينشطوا في انجاحها . فان ذلك من شأنه أن ينفث حياة جديدة في أعضاء الحركة الإسلامية ويملأها بالرحمة ويفيض عليها بالنعمة والبركة. الحركة التعاونية:- ولئن كان التشغيل والدعم وسيلتين لمناهضة الفقر فان التعاون على تلبية الحاجات المشتركة وسيلة أخرى فاعلة لاضطرار الفقر إلى أضيق السبل. فالحركة التعاونية بإنشاء المزارع الإنتاجية ومزارع الدواجن والألبان والبيوت المحمية وتمويلها بالتمويل الصغير والأصغر وسيلة لمضاعفة الإنتاج اضعافاً مضاعفةً. والحركة التعاونية لإنشاء محلات التوزيع والبيع بالتجزئة للأحياء وعبر السيارات المتنقلة تجارب فاعلة خاضتها دول أخرى وشهدت نجاحها الباهر. فتأسيس سيارة متحركة لخدمة أهل الحي وتموينهم بالسلع الضرورية من خلال الجمعية التعاونية للحي.. ثم تمويل هذه الجمعية التعاونية عبر التمويل الأصغر بضمان جماعي من الجمعية التعاونية يضمن للمصرف ماله ويوفر السيولة اللازمة للحصول على السلع . ويضمن الحصول عليها لأعضاء الجمعية التعاونية باسعار مناسبة. ونحن إذ نذكر ذلك لا نذكره على سبيل الابتداع ولكنها تجارب ناجحة وراسخة في دول عديدة تشبه أوضاعها أوضاعنا وظروفها ظروفنا . بيد أن المالكين لأمر السياسة والقرار يتوجب عليهم التحلي بالجرأة والشجاعة والقدرة على تجريب الأفكار الوليدة وارتياد الآفاق الجديدة فمن وراء الأفق تمتد عوالم رحيبة من النجاح والمسرة الباهرة.