أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اندلاع السلام (نيفاشا) الحلقة 17
نشر في الانتباهة يوم 03 - 02 - 2012

تبقت ثلاث قضايا رئيسية فيما يتعلق بجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، المشورة الشعبية ودور الشريعة الإسلامية في قوانين وتشريعات الدولة، والأراضي التي طلبت الحركة قيام مفوضية للتعامل مع النزاعات حول ملكيتها أما أبيي، وهي المنطقة الثالثة، فقد كانت مواقف الطرفين حولها بعيدة جداً عن بعضها البعض، قمت بتشجيع دكتور جون على الاتصال بأبيل ألير حول قضية أبيي، وأعاد طه الحديث عن ن قضية الشريعة قد تمت تسويتها في مفاوضات مشاكوس، وبالتالي فإن المسألة المتعلقة بدورها في جبال النوبة والنيل الأزرق لا يجب أن تثار، كما أشار إلى غموض مصطلح «المشورة الشعبية» ذاكراً أنه ليس متأكداً تماماً مما تعنيه الحركة بهذا المصطلح. وكنا عندما نناقش قضية الشريعة والمناطق المهمشة تغمر طه الحيوية، لم يكن يبدي أي غضب ولا كان صوته يعلو وانما تغدو نبرته أكثر إصراراً، وكنت أشعر أني قد لمست فيه وتراً حساساً، والآن ولأول مرة أثرت إمكانية إجراء المشورة الشعبية بطريقة غير مباشرة عبر السلطة التشريعية، كبديل للمشورة المباشرة عن طريق الاستفتاء وهذا يتوقف بالطبع على شرعية برلمان «مجلس تشريعي» الولاية في أعين الناس. ولا تزال المحادثات مستمرة بقيت في محور تقاسم الثروة قضيتان: العمل وتقاسم الموارد النفطية، وفيما يتعلق بهذه الأخيرة أصرت الحكومة على أن الدولة هي المالك لجميع الموارد الطبيعية، في حين زعمت الحركة أن الموارد ملك للمجتمع المحلي، وتم الاتفاق بينهما على صيغة تكون بموجبها الموارد فوق سطح الأرض خاضعة لمعالجة قومية يتم فيها تطبيق كل من التقاليد المحلية والتشريعات، وسيتم تأسيس مفوضية قومية للأراضي، مع مفوضية مقابلة لجنوب السودان أما بالنسبة للموارد تحت سطح الأرض، فقد كانت القضية أكثر تعقيداً، وكان من الراجح أن الطرفين لن يتفقا أبداً لذا فإنهم اختاروا عدم التعامل مع تلك المسألة مطلقاً وركزوا بدلاً من ذلك على الاتفاق حول تقسيم الدخل الناتج من النفط، وحول الترتيبات العملية والإدارية لاستغلال وإنتاج ذلك النفط. في النهاية قبل كلا الجانبين بالتنازل حول القضايا الرئيسية، فقبلت الحركة الشعبية باتفاق «50/50» من عائدات النفط، بدون أي نصيب في الإيرادات غير النفطية أما الحكومة فقد قبلت رسمياً بالتخلي عن الدينار، في حين قبلت الحركة الشعبية ببنك مركزي قومي واحد، على أن يكون له فرع كبير وقوي بالجنوب، يسمى بذلك بنك جنوب السودان وفي يوم 7 يناير، تم التوقيع على بروتوكول تقاسم الثروة سافرت إلى نيروبي ومنها إلى نيفاشا لحضور هذه المناسبة، وتم تحويل تلك المناسبة إلى حدث كبير، تبودلت فيه الخطب من الجانبين ومن الجنرال سومبيو ومني بالنيابة عن منتدى شركاء الإيقاد كما شاركت فيه الكثير من وسائل الإعلام الوطنية والدولية بالحضور. لم يكن الدكتور غازي حاضراً في ذلك الحدث، وفي وقت لاحق اعترف علناً بعدم رضاه عن الصيغة التفاوضية الجديدة، وطريقة تحديد الأولويات في المحادثات وعلق وزير الخارجية مصطفى عثمان إسماعيل على هذه التوترات في العلن، مؤكداً أنه كانت هناك اختلافات في الرأي، إلا أن هذه القضايا قد تم التغلب عليها الآن، في وقت لاحق وبعد انقضاء سنوات ذكر لي غازي أن الاختلاف بينه وبين علي عثمان محمد طه كان حول الترتيبات الأمنية، وليس حول أي شيء آخر. ما لم يذكره أي منا في الخطب التي قدمت في هذه المناسبة أو في أي وقت لاحق هو القضايا التي لم يتم التفاوض حولها فأولاً، لم يتم الاتفاق على أي أحكام تضبط عقود النفط التي ستبدأ في السريان فقط بعد التوقيع على اتفاق سلام نهائي.. تمثل هذه النقطة ثغرة يمكن للحكومة أن تستغلها لتوقيع العقود التي كانت في طور الإعداد، حيث لن تكون خاضعة لاتفاق تقاسم الثروة، ثانياً انتهت الأطراف بالتفاوض على اتفاق بشأن تقاسم الإيرادات وليس تقاسم الموارد. كان هذا خياراً متعمداً في وقت مبكر من المفاوضات. وكان بدوره سبباً غير مباشر في الصعوبات التي تكتنف قضية أبيي وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب. ما تم إغفاله ثالثاً هو أي إشارة إلى موضوع المياه، ففي ضوء الجدل الدائر حول الموارد المائية، ولا سيما قناة جونقلي في الجنوب، قد يكون هذا الإغفال مثيراً للدهشة، من ناحية أخرى، فإن هذه القضايا هي إلى حد كبير مسائل دولية مرتبطة بجميع الدول التسع لحوض النيل لذا فإن هذا الإغفال كان متعمداً، وقد كان أيضاً أمراً من شأنه أن يمنع جارة صعبة بالفعل، وهي مصر من أن تصبح أكثر عصبية حول نتائج عملية السلام. لم أناقش أيًا من هذه المسائل مع الطرفين، كان لديهم ما يكفي من المتاعب حول التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا المطروحة، إلا أن وجودي في نيفاشا أتاح لي فرصة أخرى للجلوس مع كل من الزعيمين لعدة ساعات لاستعراض القضايا المتبقية للتفاوض.. فهناك مشكلات كبيرة ما زال يتعين تسويتها، ليس أقلها المناطق الثلاث فبسبب تصاعد الضغوط الدولية، والاهتمام الأمريكي القوي، والرغبة من الجانبين في الإجهاز على القضايا والفراغ منها، لم يكن الزعيمان على يقين حول ما إذا كان باستطاعتهم الاستمتاع بفترة راحة في الوقت الراهن وتمكنت من إقناعهم بمواصلة المفاوضات على الفور بعد مراسم التوقيع، كان الأمريكيون لا يزالون يرغبون في اتفاق إطاري يتم توقيعه في 20 يناير في واشنطن العاصمة. في نفس الوقت كان الوضع في دارفور قد أصبح أكثر حدة، وكانت الضغوط تزداد لإجراء المزيد من المفاوضات بين المتمردين والحكومة، فبعد انهيار جولة ثالثة من المحادثات كانت تشاد قد رأستْها في منتصف ديسمبر، أعلن الرئيس البشير «أن أولى أولياتنا ستكون القضاء على التمرد وعلى أي خارج على القانون يحمل السلاح ضد الدولة». ووصف متمردي دارفور بأنهم «مستأجرين وخونة ومارقين ووكلاء استخدمهم أعداء السودان لتنفيذ مؤامراتهم ضد البلاد».. وعلاوة على ذلك كما قال، فهم مجموعة صغيرة «لا تمثل شعب دارفور بأي شكل من الأشكال، وأنهم يسعون لتحقيق طموحات شخصية للاستيلاء على السلطة، ليس فقط في دارفور، وإنما أيضاً في كردفان وحتى في الخرطوم».. كانت هذه إشارة ونغمة تنذر باتخاذ المزيد من الإجراءات العسكرية وليس إضاعة الوقت في المحادثات.
الفصل الخامس - التقدم الوئيد
لم يكن الوقت ليسمح بأي تأخير، فقد أضحى الآن استكمال اتفاق شامل ضرورة ملحّة، ليس فقط لعملية سلام الجنوب نفسها وإنما لدارفور أيضاً، اتصلت بدكتور جون قرنق وعلي عثمان محمد طه لمواصلة المفاوضات على الفور، بدون انقطاع حتى ليوم واحد، استجاب الزعيمان وفعلوا ذلك دون توقف، في اليوم التالي لمراسم التوقيع استمر الزعيمان في التفاوض حول المناطق الثلاث لمدة عشر ساعات دون توقف لكن تلك القضية المناطق الثلاث كانت قد أضافت المزيد من التعقيدات لمفاوضات تقاسم الثروة، وها هي الآن تهدد بتقويض عملية السلام برمتها. إحراز بعض التقدم مع انتظام المناقشات وأكد دكتور جون أنه من بين اثنتي عشرة قضية تمثل قائمة القضايا العالقة التي كان الطرفان قد أعداها، تم حل ست بينما تمثل خمس أخرى، في رأيه، قضايا قابلة للحل، كانت أبيي هي نقطة الخلاف، فقد كانت الحركة الشعبية تصر على أن منطقة أبيي تتبع في الواقع إلى بحر الغزال، وينبغي بالتالي ضمها إلى الجنوب بموجب قرار إداري، ويستند هذا الرأي إلى ما زعموا أنه يمثل الحقائق التاريخية المتعلقة باستقرار «عموديات» دينكا نقوك التسعة في منطقة أبيي، وكانوا يريدون لهذا الأمر الإداري القاضي بتبعية أبيي للجنوب أن يكون مضمناً في اتفاق السلام لحين إجراء استفتاء الجنوب أما الحكومة من الناحية الأخرى، والتي تستند في مطالبتها جزئياً أيضاً إلى الحقوق التاريخية، فقد كانت راضية عن الوضع الراهن، الذي تمثل فيه منطقة أبيي جزءاً من كردفان وبالتالي فهي جزء من الشمال. كان الطرفان قد خاضا قبل المفاوضات المباشرة بين علي عثمان محمد طه وقرنق، مناقشات غير مثمرة إلى حد كبير حول المناطق الثلاث قادها الجنرال سيمبيو، وفي الجولة الأولى انقضت تسعة أيام في مناقشة جدول الأعمال، مما يظهر مستوى POSTURING والتأخير شكلت ثلاث لجان فرعية، واحدة لكل منطقة، لإجراء محادثات منفصلة تعالج الأسباب الجذرية للمشكلات وقدمت مقترحات للتعامل معها، لكن فشلت اللجنة الفرعية لجبال النوبة في تجاوز «الأسباب الجذرية»، بينما لم تنعقد اللجنة الفرعية لأبيي رسمياً حتى بسبب النزاع على رئاسة اللجنة والتمثيل بداخلها أما لجنة جنوب النيل الأزرق فقد تدرجت للوصول لمرحلة مناقشة المقترحات. لم ينعقد النجاح لهذا النمط من التنظيم، وقبل نهاية الجولة كان التقدم الذي تم إحرازه متواضعاً، وفشل تشاور وجيز انعقد في نهاية مايو 2003م وتمكن كلا الطرفين من الظهور للجمهور الذي يقف خلفه في وضع من لا تلين مواقفه. وفي يوليو كان التعامل مع هذه المسألة يتم كجزء من المناقشات المتعلقة بمشروع الاتفاق الإطاري، وكما رأينا فقد كان انسحاب وفد الحكومة من المفاوضات يمثل، في جزء منه، احتجاجاً على تضمين المناطق الثلاث في مشروع اتفاق للسلام، وكان اعتراض الحكومة على التضمين من حيث المبدأ وعلى مضمون هذه المقترحات على حد سواء. كان هناك تقدم في المفاوضات حول المناطق الثلاث فقط عندما انخرط الزعيمان في مفاوضات مباشرة، وكانت هذه القضايا قد تم التطرق إليها خلال المحادثات حول الترتيبات الأمنية، ولكن لم تتم معالجتها في واقع الأمر قبل الشروع في المفاوضات التي جرت بالتوازي تقريباً حول تقاسم الثروة والمناطق الثلاث في خريف عام 2003م.
المناطق الثلاث والسودان
كانت المناطق الثلاث هي عوالم مصغرة للسودان كله، كما أنها تبلور رؤيتين متعارضتين تماماً لهذا البلد فبالنسبة للحركة الشعبية كان مصير المناطق الثلاث وكذلك مصير دارفور والشرق بذات القدر هو المبرر للمشاركة في المفاوضات فقد كانت الحركة، وقرنق على وجه الخصوص، تريد إحداث تحول في البلاد عليه فإن إبرام اتفاق للجنوب فقط، على حساب الشعوب المهمّشة الأخرى وعلى حساب حلفاء الحركة في المناطق الثلاث، كان غير وارد على الإطلاق فالسلام يستند إلى العدل، ودون نقل السلطة والموارد إلى المناطق المهمّشة لا يكون السودان قادراً على تحقيق السلام وتجنب التشرذم. كانت الخرطوم تجادل بأن انتقال السلطة إلى المناطق المهمّشة قد يؤدي إلى «البلقنة» وكانت الخرطوم قلقة على نحو خاص بشأن تقرير المصير، إن الحكومة قد تقبل حكماً ذاتياً محدوداً، ولكن إجراء استفتاء في المناطق الثلاث يمكن أن يمزق البلاد إلى جانب ذلك فقد كانت الخرطوم ترى أن المناطق الثلاث تمثل جزءاً من شمال السودان، وكان رأي الوفد المفاوض أن بروتوكول مشاكوس قد أكد على ذلك من خلال إشارته إلى حدود عام 1956م.. إلا أن هذا الأمر كان موضع خلاف، حيث برز هذا الخلاف إلى الواجهة خلال المناقشات التي جرت حول وضع العاصمة في وقت لاحق من ذلك بكثير، وكان من المسلم به أن أبيي تختلف نوعاً ما عن المنطقتين الأخريين، إلا أن موقف الحكومة ظل ثابتاً هنا أيضاً. كانت هنالك دوائر سياسية قوية ونافذة للغاية خلف كل من المرافقين، موقف الحكومة وموقف الحركة الشعبية، وكان لتلك الدوائر بدورها حلفاء في أعلى مستويات القيادة في كل جانب، فقد كان للحزب الحاكم في الخرطوم صلات وثيقة بقبيلة المسيرية والتي كان زعماؤها ينافحون بالصوت العالي عن حقوق القبيلة في منطقة أبيي، أما بالنسبة للحركة فقد كان الوضع أكثر صعوبة، إذ أن كبار أعضاء قيادتها ينحدرون من المناطق الثلاث، وكان العديد من قادة الحركة البارزين ينحدرون من دينكا نقوك في أبيي، إذن فإن التخلي عن المناطق الثلاث من أجل التوصل إلى حل «جنوبي فقط» سيبدو خيانة لهؤلاء القادة ولشعوبهم، مما سيترتب عليه فقدان الحركة للدعم والتأييد في أماكن أخرى. فقد كان وقوف الحركة بحزم إلى جانب هذه المناطق الثلاث وغيرها من المناطق المهمشة هو ما جعل الحركة الشعبية حركة قومية. ووجهت بالخط الأحمر في العديد من المحادثات الهاتفية مع علي عثمان ودكتور جون حول المناطق الثلاث في أكتوبر 2003م، فقد قال طه: «تقرير المصير لجميع المناطق الثلاث؟ ثم ماذا عن الشرق ودارفور؟ وإلى أين سينتهي هذا الأمر؟ إنه سيقود إلى تفتيت كامل الدولة»، وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، خلال محادثة خاصة في نيفاشا «كما تشير إلى ذلك ملاحظاتي المدونة حول تلك المناقشة» ذكر لي أن الحكومة في نهاية المطاف «لن تكون معارضة لبقاء منطقة أبيي كجزء من بحر الغزال»، وكان قد ذكر الشيء نفسه لقرنق، ولكن لم يتم الإفصاح عن هذه الآراء في المحادثات بشكل كامل. كما أن موقف الحكومة المعلن بشأن أبيي صار أكثر تشدداً بعد ذلك بوقت وجيز. بعد الانتهاء من بروتوكول تقاسم الثروة في يناير 2004م بدأت الأمور في التحرك كان لي محادثة طويلة في نيفاشا مع أبيل ألير الذي كان يملك اقتراحاً هاماً ناقشته في وقت لاحق مع كلا الطرفين ومع زملائي من «الترويكا» فنظراً للروايات المتنافسة حول تاريخ أبيي، يمكن أن يتم تكوين لجنة للتحكيم تكون النتائج التي ستتوصل إليها ملزمة للطرفين، ستتركز المناقشة من ثم، كما يقول ألير، على من ينبغي أن يكون أعضاء تلك اللجنة، وما هي حدود تفويضها، وهكذا ستكون القضية الرئيسية هي الاستفتاء ما هي المسائل التي يثيرها، متى سيتم إجراؤه، وكيف ستتم إدارة المنطقة إلى حين قيام الاستفتاء ويجب في رأيه، على الاستفتاء ببساطة أن يطرح الخيار بين الحكم الذاتي في الشمال أو الاندماج في الجنوب، رأيت في هذا الاقتراح مخرجاً معقولاً، على الرغم من أنه سيكون من الصعب الترويج له وإقناع الآخرين به، لم يكن لقرنق أي تحفظ على فكرة لجنة التحكيم وإن كان لديه مخاوف جادة بشأن عناصر أخرى من مقترح ألير.كان لديّ مناقشات مطولة مع علي عثمان محمد طه، حيث حذر من أي توقيع لاتفاق قريب على المناطق الثلاث، وقام بتحديد نفس القضايا التي أشار إليها دكتور جون، إلا أنه قام بتسليط الضوء على الخلافات بدلاً من التركيز على نقاط الالتقاء عدا ذلك فقد أعاد تكرار نفس المواقف التي تعلنها الحكومة. وذكر طه أن كلمة «الاستفتاء» نفسها «قابلة للاشتعال» لكنه أشار، مع ذلك إلى أن ألير يمتلك بعض الأفكار الجيدة حول ما تبقى من مشوار المفاوضات كما شجع على المزيد من النقاش. في الوقت نفسه كان أبيل ألير قد بدأ من تلقاء ذاته في كتابة ورقة بيّن فيها مرحلتين لحل مشكلة أبيي تتعلق الأولى بتحقيق الاستقرار، وإعادة توطين اللاجئين، وتحقيق الاستقلال الذاتي، بينما تختص الثانية بالمشورة حول الوضع المستقبلي. كنت أدري أنه يجب أن تتضمن الورقة إجراء استفتاء حول ما إذا كانت المنطقة ستتبع إلى الشمال أو الجنوب إذا ما كان للحركة الشعبية أن تقبل بهذا النهج اطلع علي عثمان على الورقة وأعربت عن اهتمامه بما ورد فيها.. وكان رد فعل قرنق سلبياً للغاية: إن الاقتراح شديد الشبه بذلك المقترح الذي انتهى بالفشل في إطار اتفاقية إديس أبابا، كما أن توقيت المشورة كان خاطئاً لأنه إذا كان من المقرر إجراء استفتاء أبيي بعد ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير فلن تكون هناك وسيلة لضمان أن ذلك الاستفتاء سيتم على الإطلاق.
الاستعراض في رواق دانفورث
زار المبعوث الخاص دانفورث نيفاشا في 14 يناير 2004م وفي حين أنه كان من الواضح أنه يسعى لإعطاء دفعة للمفاوضات النهائية، قال لي دكتور جون إن «كل جانب» كان «يستعرض في رواق دانفورث» بالمواقف المتشددة، وكان اندرو ناتسيوس مدير الوكالة الأمريكية للتنمية ضمن الوفد حيث كان قد قدم إلى نيفاشا عن طريق دارفور والخرطوم. وكانت دارفور قد خلفت تأثيراً كبيراً كان ناتسيوس يغلي من الغضب ليس فقط على ما رآه هناك ولكن أيضاً على إستراتيجية الحكومة التي رآها تتكشف في دارفور، وبينما كان دانفورث في نيفاشا، كان أعضاء بارزون في فريق التفاوض الحكومي قد ذهبوا إلى الخرطوم لإطلاع البشير الذي كان يستعد لزيارة القاهرة، على مستجدات الأمور وكان تقييم قرنق أن أسبوعاً قد ضاع: «مكالمة هاتفية كانت تكفي»، في الوقت نفسه، كان من الواضح أن زيارة دانفورث كانت مهمة لوضع دارفور على رأس جدول أعمال كل من الطرفين وكنت قد شددت على الوضع مع طه قبل أسبوع كما سأفعل ذلك في وقت لاحق مدفوعة بالقلق من أن تتعرض عملية السلام برمتها للخطر، ولكن المخاوف الأمريكية كانت أكثر تأثيراً. بعد مغادرة دانفورث رجع طه وقرنق إلى مهامهم، حيث ظلا يجلسان لساعات في مناقشة قضية أبيي، كان طه يريد ترتيباً إدارياً يكفل الحكم الذاتي، يرأسه دينكا نقوك ولكن من دون استفتاء وحاول طه تلطيف هذا الموقف من خلال اقتراح القائد دينق ألور حاكماً، وهو مؤشر على ما فسرته الحركة الشعبية على أنها محاولات واضحة لخلق انقسامات داخل الحركة ومع تقدم المفاوضات ثارت المخاوف من أن ما تم تحقيقه من خلال بروتوكول مشاكوس وبروتوكولات نيفاشا الأخرى يمكن أن يضيع الآن بسبب المناطق الثلاث، فبعد كل شيء فإن العديد من الجنوبيين لا يحملون مفهوم السودان الجديد على محمل الجد ولكن من بين أولئك الذين كانوا ليسوا هم كذلك كان دينق ألور وإدوارد لينو من أبيي، وعبد العزيز آدم الحلو من جبال النوبة، ومالك عقار من جنوب النيل الأزرق، كان التغيير في الشمال، بالنسبة لهؤلاء يمثل أمراً أساسياً. كانت اللجنة الفرعية لأبيي قد تمكنت الآن من فحص ومراجعة الادعاءات التاريخية ودراسة الخيارات الممكنة للحل، وتم طرح فكرة ألير المتعلقة بلجنة تحكيم مستقلة ضمن هذا السياق، وكان قد جرى تعزيز لنجاعة تلك الفكرة من خلال المناقشات التي أجريتها مع الزعيمين الاثنين على الهاتف، كان علي عثمان يريد مني ممارسة الضغط على الحركة الشعبية من أجل حملها على القبول بأن اقتراحها المتعلق بالقرار الإداري لن يصيب نجاحاً، وأن إجراء استفتاء أمر غير مقبول.. أخبرته بأن مقدرتي على التأثير في موقف الحركة كانت محدودة للغاية، ونظراً لتعقيدات هذه المسألة التاريخية فقد كنا بحاجة أيضاً لاستشارة خبراء في التاريخ والقانون الدولي. كان ما تخبئه الظروف أكثر من مشكلة أبيي، فقد بدأ وفد الحكومة في إعادة جدولة الاجتماعات أو إلغائها من دون أي تفسير وأخطر طه دكتور جون بأنه يتوجب عليه أن يعود إلى الخرطوم مرة أخرى لأسباب شخصية، حيث ينوي بعد ذلك السفر إلى مكة لأداء فريضة الحج.. فشلنا في إقناع طه بالعدول عن قراره، حيث غادر على نحو مفاجئ في منتصف المفاوضات مذهلاً الحركة الشعبية والمراقبين الدوليين على حد سواء، قامت الأطراف المشاركة بتحديد 17 فبراير موعداً للجولة القادمة، واتفق قرنق وطه على مواصلة التواصل عبر الهاتف، سيتضح في وقت لاحق لماذا اختارت الحكومة تكتيك المماطلة في هذا الوقت بالذات فقد انفجرت الأزمة في دارفور فعلياً مباشرة بعد هذا الذي حدث. اخطرني علي عثمان كما أخطر غيري بأنه يعتزم الحج إلى مكة المكرمة، في الوقت نفسه كنت على علم بالانتقادات المتزايدة لطه في الخرطوم للإفراط في تقديم التنازلات في المفاوضات واستمرت تلك الانتقادات في التركيز على الترتيبات الأمنية، حيث ظل مجذوب الخليفة أحمد، الوالي السابق لولاية الخرطوم وأحد مراكز الدفع في الحزب الحاكم، والدكتور غازي وبعض كبار ضباط الجيش يجأرون بالانتقاد.. وكما علمت في وقت لاحق فإن طه كان قد ذهب إلى الخرطوم على النحو المفاجئ ذاك لتهدئة روع هؤلاء قبل مواصلة رحلة الحج قد تكون تلك هي «أسبابه الشخصية» وعلى أي حال فبعودة طه من الحج، كان وضع جديد في دارفور قد نشأ.
حريق دارفور
كان العنف في دارفور قد بلغ أعلى مستوى له خلال تلك الفترة وبعد حملة عسكرية مكثفة أعلن الرئيس البشير النصر وانتهاء العمليات العسكرية في 9 فبراير، كما أعلن السمات العامة لمقترحات رسمية لتسوية الصراع في دارفور. وعلى الرغم من أن الإشارات كانت غامضة نوعاً ما، فقد كانت الحكومة حتى ذلك الحين قد تحاشت أي اقتراح للتسوية السياسية، وفي الوقت نفسه، رغماً عن ذلك فقط أثبت ادعاء البشير أن الحكومة قد استعادت جميع الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون وأنها فرضت سيطرتها الكاملة على المنطقة بأنه غير دقيق بشكل عاصف، كما سيصبح جلياً في وقت لاحق، وكان تصاعد العمليات العسكرية بدارفور خلال شهري يناير وفبراير قد جذب أنظار وإدانة العالم إليه على نطاق واسع. ويعكس نتائج هذه العملية العسكرية الكبيرة وغيرها من الهجمات تقرير لجنة الأمم المتحدة الدولية لتقصي الحقائق في دارفور، الذي نُشر في عام 2005م أثبتت اللجنة أنه «تقع على حكومة السودان ومليشيات الجنجويد مسؤولية انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي بما تعتبر جرائم في عرف القانون الدولي».. ويوضح التقرير كذلك أن قوات الحكومة والمليشيات قد شنّت هجمات عشوائية في جميع أنحاء دارفور، شملت قتل المدنيين والتعذيب والاختفاء القسري، وتدمير القرى والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي والنهب والتهجير القسري، وقد جرت هذه الأعمال على أساس منهجي واسع النطاق وهي بالتالي قد تصل إلى حد الجرائم ضد الإنسانية». وصف البعض هذه الأحداث بأنها إبادة جماعية، ووصفها البعض الآخر بأنها تطهير عرقي وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية حيث كانت تلك الأخيرة هي أساس لائحة اتهام المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير وصدرت مذكرة توقيف ثانية ضد البشير بتهمة الإبادة الجماعية في 12 تموز عام 2010م حين كان هذا الكتاب في طريقه إلى المطبعة وعلى أي حال فقد تمثلت الحقائق في أن ما يقرب من مليون شخص هم الآن نازحون، بجانب «200.000» لاجئ عبروا الحدود إلى تشاد وكان عدد الوفيات الناجمة عن أسباب تتعلق بالحرب قد وصل إلى حوالى «150.000» وتم انطلاق عملية إغاثة إنسانية ضخمة إلا أنها قد أُعيقت وقُطع عليها الطريق، مثلما أُعيق وصول وسائل الإعلام أيضاً، بيد أن شهود العيان كثر. عندما كانت المحادثات رفيعة المستوى مع طه على وشك أن تبدأ في يوليو 2003م، أشار جون قرنق بإيجاز إلى إمكانية إدراج دارفور والشرق في المفاوضات وكان أبيل ألير قد لعب دور الوسيط حيث كانت هذه النقطة واحدة من بين العديد من النقاط التي شملتها مداولات سرية ورفض طه ب«لا» قاطعة مشيراً إلى دعم الحركة الشعبية للجماعات المتمردة لهذا فإن الحديث حول أن رئيس الحركة الشعبية قد اعترض طريق أي محاولات من هذا القبيل، هو بالتالي حديث غير صحيح، لكن دكتور جون لم يصر على هذا الأمر مطلقاً، ولربما كان الأمر ببساطة هو أنه كان يريد أن يكون قادراً على ادعاء أنه حاول وقد تم بالفعل رفض طلب محدد بإدماج دارفور في المحادثات في وقت سابق في مشاكوس في عام 2002م عندما أشار كلا الطرفين إلى حدود تفويض الإيقاد، وكنت كلما أثرت هذه المسألة في وقت لاحق مع كل من طه وقرنق كانت الإجابة دائماً هي نفسها: «لا» من النائب الأول للرئيس، و«لن يُكتب لهذا الأمر النجاح»، من رئيس الحركة الشعبية.
كانت إستراتيجية قرنق للتفاوض قبل بداية المحادثات رفيعة المستوى تتمثل في التفاوض بجدية لتحقيق السلام والتحول السلمي، مع العمل من أجل تغيير النظام مع التحالف الوطني الديمقراطي ودعم حركات التمرد في دارفور وأكد أعضاء من قيادة الحركة الشعبية أن الحركة قد قامت بتوفير التدريب العسكري لحركات دارفور خلال تسعينيات القرن المنصرم وفي وقت لاحق لذلك بكثير قبيل مشاكوس اتصل زعيم المتمردين عبد الواحد محمد نور بالحركة الشعبية طلباً للدعم السياسي ومنذ ذلك الحين كان يُنقل عنه اعترافه بدعم الحركة الشعبية العسكرية لحركة تحرير دارفور التي صارت في وقت لاحق حركة وجيش تحرير السودان. وتؤكد مصادر موثوقة أخرى مقربة من قيادة الحركة الشعبية على ذات الشيء.
يعتقد كثير من الجنوبيين أن حكومة الخرطوم «مشوهة بالقدر الذي يتعذر معه إصلاحها»، لذلك فإن أمام الحركة الشعبية خيارين، إما السعي لتحقيق السودان الجديد، أو تغيير النظام، ويبدو أن قرنق كان يريد أن تكون كل الخيارات متاحة، إلا أن السؤال كان: «إلى متى؟» عندما علمت بأمر الاتهامات ضد الحركة الشعبية لم نكن نعرف ما إذا كانت تلك الاتهامات صحيحة حقاً أم لا، ومع ذلك فقد أثرت مسألة الدعم العسكري هذه مع دكتور جون في إحدى المحادثات الخاصة حيث ذكرت له أن مثل هذا الدعم لو كان ما يزال مستمراً سيكون له انعكاسات خطيرة على مصداقية الحركة الشعبية على طاولة التفاوض ما لم يكن واضحاً لي منذ ذلك الوقت وحتى الآن هو منذ متى شارك دكتور جون قرنق والحركة الشعبية في دعم الجماعات المتمردة وما إذا كانوا ما يزالون يفعلون ذلك خلال النصف الأول من عام 2004م عندما كان يبدو أن محادثات نيفاشا ستكلل باتفاق على الأرجح، فقد كانت حادثة قيام الجيش الشعبي بعملية إجلاء لعبد الواحد من وادي صالح في فبراير عام 2004م تشير إلى وجود علاقة مستمرة بين حركة/ جيش تحرير السودان والحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان إلى وقت متأخر جداً من المحادثات.
بعيداً عن المناقشة المتكررة لقضية دارفور، أثرت أيضاً مع علي عثمان محمد طه قلقنا إزاء دعم الحكومة للمليشيات سواء كان ذلك في أعالي النيل أو في شرق الإستوائية ففي كلتا الحالتين كان مثل هذا الدعم لا يساعد على تحقيق سلام عبر التفاوض وبخاصة في مرحلة المحادثات التي كنا فيها وقتها. وهكذا يبدو أن الجانب الحكومي يعمل هو الآخر على مسارات متوازية، حيث ينخرط علي عثمان محمد طه في محادثات السلام بينما كانت عناصر في الأمن الوطني والاستخبارات العسكرية مع أو من دون الحصول على موافقة القيادة العليا تحاول على ما يبدو تقويض عملية السلام وكانت الهجمات الكبيرة للمليشيات في عامي 2003م و2004م مؤشراً واضحاً على ذلك ولكن تماماً كما نفى دكتور جون الدعم العسكري للمتمردين في دارفور، نفى كذلك علي عثمان محمد طه دعم الحكومة للمليشيات. بمساعدة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي تم إحراز بعض التقدم في المحادثات بشأن دارفور إلا أن أعمال العنف ظلت مستمرة على الرغم من وقف إطلاق النار وفي الوقت نفسه بدأت الجماعات المتمردة في الانقسام والتشرذم ففي وقت مبكر، كانت الحركة القومية للإصلاح والتنمية قد انقسمت بعيداً عن حركة العدل والمساواة أما الآن فتقوم فصائل حركة/ جيش تحرير السودان بمهاجمة بعضها البعض، وتلا ذلك المزيد من الانقسام ولم يكن ذلك ليحسن من احتمالات التوصل إلى نهاية للعنف في دارفور عبر التفاوض. يبدو أن كلاً من الحركة الشعبية والمجتمع الدولي قد أخطأ في الحكم على الوضع في دارفور في ناحيتين مهمتين فقد توقعنا جميعاً أن تتوصل المفاوضات إلى اتفاق سلام شامل في الجنوب في وقت أقصر بكثير مما صار إليه الحال فعلاً ثانياً، افترضنا جميعاً أن شدة الصراع في دارفور سوف تستمر على ذات المستوى المنخفض نسبياً الذي ارتبط بحالات التمرد السودانية الأخرى كان هذا يعني أن هناك وقتاً للتوصل إلى اتفاق في الجنوب ومن ثم لمعالجة قضية دارفور والوضع في الشرق، والذي كان متوتراً هو الآخر كنا على خطأ في كلا الاعتبارين فعند كل منعطف في المفاوضات كانت تظهر عقبات جديدة تحول دون إحراز تقدم كما تم ايضاً استخدام تكتيكات المماطلة كما حدث في يناير 2004م قبل وقت قصير من شن الحكومة لحملة واسعة النطاق في دارفور.
كانت الحكومة تدرك جيداً أن الانتهاء من عملية سلام نيفاشا سوف تركز كل الاهتمام الدولي على دارفور لكن الآن بلغ نطاق العمليات في دارفور حداً لا يمكن معه الانتظار حتى تأخذ عملية التفاوض مجراها بيد أن استمرار المفاوضات قد قاد في واقع الأمر إلى شل المجتمع الدولي على نحو ما، فقد أصبحت دارفور كما يبدو رهينة للمحادثات لذلك بدأت أنا من وراء الكواليس في استطلاع امكانية القيام بعملية سياسية منفصلة بعد نيفاشا، تستند إلى الأطراف المشاركة الآن فعلياً على طاولة المفاوضات كنت أخطط لمتابعة هذا الأمر بجد لاحقاً، ومن الممكن على سبيل المثال أن يكون هذا «مساراً سريعاً» للتفاوض يشارك فيه المفاوضون الرئيسيون بجانب جماعات المتمردين في دارفور، بعد الانتهاء من البروتوكولات الأخيرة.
لم يكن معلوماً ما إذا كان طه يؤيد الحملة العسكرية في غرب البلاد، أو أنه قد أذعن للأمر لا غير، فليس لدينا بالكاد أي معلومات تمكننا من الحكم، كما أن قرار علي عثمان في تلك السنة بالغياب عن البلاد لأداء فريضة الحج، ربما كان ذا صلة بهذا الأمر وفي كل الأحوال فإن الخيار العسكري الذي كانت الخرطوم مستعدة للتخلي عنه فيما يتصل بالجنوب نراها الآن تتمسك به بكلتا يديها في دارفور.
نواصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.