أغلب القصص في هذه المجموعة، هي قصص الذاكرة الملتصقة بالوجدان، وهي ذاكرة، لا يهم أن تكون زمانياً قريبة أو بعيدة.. وهي ذاكرة أقرب للحياة الأسرية. والتجارب الحياتية اليومية في أمكنة وأزمنة مختلفة. وهذه الذاكرة قيّدت القصة من دائرة الحكاية الخبرية، أو القصة الانطباعية، وقربتها أيضاً من الخاطرة غير المقيدة بقيود الزمان والمكان.. وهذا ما جعل الصراع في أغلب القصص ضعيفاً، فهي نصوص، أو قصص الموقف الصغير. أو ما يمكن أن نطلق عليه الكشف عن البؤر الفرعية في الواقع الملتقط.. أو الذاكرة الفجائية اللحظية.. وهذه الذاكرة المستدعاة، أو الذاكرة المسرودة يغيب فيها دائماً كما يقول أهل النقد الحركة المشهدية، تجسيم الشخصية، تفعيل حركتها داخل الفضاء النصي.. أقوالها وأفعالها، فكل هذا تحنطه الذاكرة المسرودة، المهيمنة على النص.. وحتى في قصة القلادة «أول القصص في المجموعة» قد جنحت للفنتازيا، قليلاً بزواج الإنس من الجن.. ولكن الراوي العليم كان محكوماً بسلطة الواقع، وليس بسلطة الخيال الذي لا يخضع لقانون الواقع؛ فعاد إلى منطق السرد الواقعي يقول: (وكانت القدرات الخارقة التي يراها الناس في «حمد كنتوش» تؤكد لهم أنه من الجان)؛ فالراوي تحلل من أن ينسبها لنفسه حتى لا يحاسب على صدقها.. ولأنها ذاكرة كاتب فهو لا يستطيع أن يقول إنه رآها بنفسه كراوٍ.. ثم عاد إلى قطعية الدلالة والحديث فيقول: (كنت أعرف أن حديث أمي كان من نسيج الخيال وأن حمد كنتوش هذا ليس إلا رجلاً صالحاً ينفع الله به بعض النفع المحدود).. أحياناً طغيان الذاكرة عند الكاتب أدى لطغيان الواقعية ونقلها حرفياً دون مزجها بالخيال.. وهي ما تسمى «الأمانة الواقعية البلزاكية» نسبةً لكاتب الواقعية الفرنسي «بلزاك» واللوحة تتوقف كما شاهدها ورآها الكاتب؛ فاللغة أشد تحجيماً بهذا الواقع.. وتأويل القارئ لا يذهب بعيداً إلا إذا كان المضمون قوياً ومفتوح الدلالة كما في بعض قصص المجموعة.. وهذا الصدق الكتابي الواقعي جعل القاص محمود يكتب بهدوء العاطفة، وبمنطق الكتابة الواقعية التي ذكرناها، فهو يكتب ما رآه حقاً وليس وهماً كما في قصة القلادة.. وهو يكتب بإحساس الواقع الذي رآه وليس ما يتوقعه من هذا الواقع.. وكتب بواقعية صادقة «الصدق الكتابي» وهذا ما جعل نَفسه القصصي قصيراً.. وهو ما قرب نصوصه إلى القصة القصيرة جداً.. وتقرّب أيضاً إلى جنس الخاطرة.. والخاطرة دائماً الصدق الكتابي فليس لها نهاية.. وهو كذلك يلتقط قصص الموقف الصغير الذي يكون موجوداً في الذاكرة القريبة وليست البعيدة، ما عدا القصص المرتبطة بزمن الطفولة والمحفورة عميقاً في وجدانه. الزمن في هذه المجموعة كان كتلة واحدة، تتدحرج ولا تتوقف بمعنى ليس هناك استرجاعاً إلا كخاطرة زمانية تعود سريعاً.. ولم تخضع لفنية الاسترجاع فهو مربوط بذاكرة الراوي في القرية أو في المنافي البعيدة.. فهي كما قلنا كتابة تذكر وليس كتابة خيال؛ فالذكريات حاصرت خيال الكاتب رغم انفلاته أحياناً من قيد هذه الذاكرة. وكثيراً من القصص قد كتبت بطريقة الكتابة الأفقية، وليست الكتابة العمودية، التي تعود وتستبق وتتأثر بتقنيات السينما في الرجوع والعودة والاستباق. فالشخصيات رغم عمقها وأهميتها وخاصةً شخصيات القرية، ولكنها تنوب غيرها في الحكي والسرد؛ ولأنها أقرب للشخصيات الحقيقية؛ فالدلالة شبه مقفولة، وهذه الكتابة الأفقية تجعل المتلقي يقف على السطح، ولا يستطيع النفاذ إلى فجوات الواقع، كتب القاص محمود مجموعته «الدمى والشيطان» كما قلنا بالنفس السردي القصير، الأقرب إلى الاختزال السردي، وهذا الاختزال له حسناته وله عيوبه، ومن عيوبه أنه قد يحرم القارئ من جماليات اللغة عند الكاتب، وقد يحرم الكاتب نفسه من توضيح فكرته ورسالته.. كان يمكن للكاتب محمود أن يترك شخصياته تتداعى بحرية، لتخرج دواخلها ومكوناتها خاصةً عن ألم الغربة، والحنين إلى الوطن والأسرة، ومن قصص المجموعة الجميلة قصة في انتظار النور وكان يمكن أن تكون لوحة إنسانية لو تداعى يحكي عن خوالج هذا الأعمى وتوقعه بما سيأتي، ثم انكفائه وإحباطه بعد فشل العملية. لغة المجموعة كانت موظفة توظيفاً جيداً واستفادت من شعرية الكاتب فهو من الشعراء الشباب المعروفين. فلسفته سليمة وواضحة وليست غامضة وخطابه السردي كان خاضعاً لفنيات ولغة السرد الحديث، حيث التكثيف والاقتصاد اللغوي الذي يتطلبه الموقف الصغير في القصة القصيرة؛ فاللغة عنده طبعة وليست مهمومة ومجنحة، وقد استطاع رغم محكومية اللغة السردية أن تظهر جمالياتها ورومانسياتها خاصة في قصص البوح والوجدان والعاطفة، والنفس القصير هو الذي حرّم الكاتب من المواصلة في إظهار جماليات اللغة عنده وقد حاول تجنب بعض الكلمات الفصحى المنسية وتحويلها إلى لغة سرد، ولغة واقع يومي يقول «كنت استحكي والدتي» ويقول «مداواته لكثير من الزمني والمفلوجين» ويقول في «ليلة عليلة الهواء» فهي لغة جميلة وتصلح للسرد كما تصلح للشعر.