تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل ما يجري في السودان هو حقّا مؤامرة؟.. ولماذا يتجاهل الرئيس البشير مسؤوليته عن انفجار الشعب؟.. وهل الشعوب أداة طيّعة لهذه الدرجة بيد الأعداء حتى يحركونها بالريموت كونترول متى ما شاؤوا؟

لم يتوانى الرئيس السوداني عمر البشير في كل ظهورٍ له أمام الجماهير مُلوحا بعصاهُ، عن اتهام المتظاهرين والمحتجين بأنهم مدفوعون من الخارج وينفذون أجندات خارجية .. ولكنه لم يُوضح ولا مرّة من هو هذا الخارج الذي يدفع ويحرك شعب السودان في وجه حاكمه. ولم يُقدّم أية دلائل وإثباتات تؤكد وجهة نظره .
يركز في هجومه على الشيوعيين والبعثيين وأنهم هُم من يحرك الشارع.. وفي الآونة الأخيرة بات تركيزهُ أكثر على الشيوعيين ..
بكل الأحوال إن كان البعثيون والشيوعيون هم من يفعلوها فإنّ هذه ليست تهمة بل على العكس إنها ميّزة للشيوعيين والبعثيين إن كانت لهم هذه الشعبية وأنهم قادرون على تحريك الشارع السوداني لأجل الانتقال إلى نظام حُكم آخر يقوم على الإرادة الشعبية.
فالشيوعيون والبعثيون في السودان هُم قبل أي شيء سودانيون ، ومن أبناء الشعب السوداني ولهم كل الحق أن يمارسوا نشاطهم السياسي في المجتمع السوداني، وأن يعبروا عن وجهات نظرهم ومعارضتهم لِحكم الرئيس البشير، وأن يقوموا بالمظاهرات والاحتجاجات على الأوضاع المعيشية المزرية.. وعلى الرئيس البشير أن يلوم نفسهُ لأنه سمح للبلاد أن تصل إلى هذه الأحوال المزرية على مدى ثلاثين عاما ، حتى فاض الكيل وما عاد الصبر ممكنا ..
لو كان ما يزال الاتحاد السوفييتي موجودا لرُبما كنا اقتنعنا أن الشيوعيين يتحركون بأوامر من موسكو .. ولكن البشير اليوم صديقا لموسكو .. ولو كانت ما تزال هناك قيادة قومية لحزب البعث في سورية أو العراق لقلنا، أن البعثيين في السودان ينفذون أجندة دمشق أو بغداد ، ولكن البشير هو صديق اليوم لدمشق وأول رئيس عربي يقوم بزيارة دمشق بعد سنين من القطيعة.. فضلا عن أن البعث محظورٌ في العراق ، وفي سورية لم يعُد له الدور الذي كان أيام زمان، والنشاط على الصعيد القومي لِحزب البعث غير موجود وكل نشاطه يتركز في الإطار الوطني الداخلي ..
باتت كل الشعوب العربية تدرك أنه مجّرد أن تخرج مظاهرة ضد الحُكم في أي مكان على الساحة العربية، وتطالب بالإصلاح والتغيير، ومكافحة الفساد والفقر والبطالة والغلاء، وتطالب بتطبيق القانون على الجميع ، وبالمحاسبة والمساءلة، وبناء دولة قانون ومؤسسات ، يخرج النظام الرسمي الحاكم وإعلامه والمدافعين عنه حالا ويهربون للأمام ويلقون بالمسؤولية على المؤامرة ومخططات الامبريالية والصهيونية والاستعمار. بينما في حقيقة الأمر المسألة ليست مؤامرة وإنما هي فقرٌ وجوعٌ وغلاء وبطالة وفساد واستبداد وظلم وتمييز .
النظام الرسمي العربي الحاكم لا يعترف بكل ذلك حتى لا يدين نفسه ويتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلده، ولذا أسهل شيء الحديث عن مؤامرة وتحميلها المسؤولية وإطلاق أوصاف العمالة والخيانة والمندسين والمندفعين من الخارج لتنفيذ أجندات تخريبية. مع أن واقع الحال فإن أكبر مؤامرة هي الفساد ونهب ثروات الشعوب واحتكارها بأيدٍ محدودة ، وإلغاء أي دور للشعوب ..
يقول المثل الشعبي : الولد الذي لا يصرخ لا تُطعِمه أمهُ.. وهذا هو حال الشعوب العربية مع حكوماتها... فلا يلتفتون إلى معاناة الشعوب وفقرها وبؤسها وحرمانها، إلا بعد أن يفيض الكيل بها وتخرج للشوارع بعشرات الآلاف وهي تصرخ ملء حناجرها: " الشعب يريد إسقاط النظام" .. حينها فقط تصحو الحكومات من نومها وتلتفت لشعوبها، وتبدأ السعي الدؤوب لامتصاص الغضب، بالوعود العسلية .. تماما كما يفعل الرئيس البشير..
يقول الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل: المؤامرة موجودة في التاريخ ولكن ليس كل التاريخ مؤامرة.
فقط النظام الرسمي العربي ينظر لكل شيء بعين المؤامرة .. وهذا وسواس خنّاس يلزمهُ العلاج النفسي ..
خرج في فرنسا أصحاب السترات الصفراء باحتجاجات بعشرات الآلاف في مدن عديدة، ولزمنِ طويلٍ، ولكن لم نسمع أن أي مسؤول فرنسي اتهمهم بالتآمر والخيانة والعمالة, أو غير ذلك.. بل الجميع كان يسترضيهم، وتمّت الاستجابة لمطالبهم، وتمت الدعوة إلى حوار وطني على مستوى فرنسا كلها، وتحاورت الحكومة مع ممثلي النقابات وأصغت لهم، وتفهمّت مطالبهم.. وهكذا...
الرئيس البشير يشغل السلطة منذ ثلاثون عاما، وهو يقول أن بلاده مُستهدّفة منذ عشرون عاما.. أي عُمر المؤامرة على السودان عشرون عاما، مما يعني خلال السنوات العشر الأولى من حُكم البشير لم تكُن هناك مؤامرة، ولكن بعد عشر سنوات من استلام البشير للسلطة جاءت المؤامرة.. واليوم هو يتذرّع بها ..
النظام في المغرب يقول أنه يتعرض لمؤامرة من خلال مشكلة الصحراء الغربية، والنظام في الجزائر يقول أنه يتعرض للمؤامرة من خلال المعارضة الإسلامية .. والنظام في السعودية يقول أن هناك مؤامرة كونية على السعودية.. وفي الإمارات يتحدثون عن مؤامرة أخوانية.. وفي العراق مؤامرة.. وفي لبنان مؤامرة.. وفي موريتانيا مؤامرات انقلابية دوما.. وفي مصر مؤامرة .. وفي ليبيا مؤامرة .. وفي البحرين مؤامرة.. وفي قطر مؤامرة، وفي اليمن مؤامرة..وفي الصومال مؤامرة .. أخبروني عن نظام رسمي عربي واحد لا يدّعي أنه يتعرّض للمؤامرة!!..
في كل مكان على الساحة العربية هناك مؤامرة، كما يروق للنظام الرسمي العربي أن يصرِّح.. ومَن هُم أصحاب المؤامرة ؟. إنها الشعوب العربية، فهذه " تهوى المؤامرة وتعشق التآمر"، لأنها لم تعُد قادرة على المزيد من الظلم والقهر والفقر والفساد والنّهب لثرواتها، ولكن خجلَا وحياءً فلا يقولون أن هذه الشعوب متآمرة، وإنما يقولون أن من حرّك هذه الشعوب هي فئات مُندسّة مرتزقة عميلة مُرتبِطة بالخارج وهي تُنفِّذ مشاريع خارجية ضد أنظمة الحُكم " الوطنية الشريفة النزيهة التي تجوع كي يشبع الشعب وتبرُد كي يتدفأ الشعب، وتفقَر كي يكتفي الشعب" !!. مسكينة الحكومات العربية إنها تستحق الشفقة، فهي دوما ضحية التآمر من هذه الشعوب "المرتبطة بالخارج والتي تُدار بالريموت كونترول من الخارج".. أليس هذا مثيرا للسخرية!..
وإن كنّا سنأخذ بنظرية الحكومات، فأليس من حقنا أن نسأل : كيف تمكن الخارج من التأثير على الشعوب ودَفعِها للشوارع ضد حكوماتها وأنظمتها، رغم وجود كل أجهزة الدولة بين أيدي هذه الحكومات؟. ولماذا استجابت هذه الشعوب لصوت الخارج ولم تستجِب لأصواتِ حكوماتها؟. ألَا توجدُ أسباب لذلك؟. ما هي ؟. هل تتوفّر الشجاعة لدى أي حكومة عربية لتعترف بأغلاطها بحق شعبها وتتحمّل المسؤولية عن ذلك؟. لا أحدا منها يعترف بأغلاطه، الأغلاط دوما هي من طرف الشعوب !..
صحيح أن المؤامرات موجودة في تاريخ البشرية، ولكن من السُخف أن نعزو كل شيء إلى نظرية المؤامرة، كما يحلو دوما للحكومات العربية.. فهذا غير صحيح..
مشاكل ومصائب البلدان العربية هي ذاتها،أو متقاطعة جدا، ومتشابهة جدا في كل مكان (إذا ما استثنينا بحبوحة العيش في بعض دول الخليج العربي وهذا ما يجعل شعوبها صامتة نسبيا)، وإلقاء اللوم بكل شيء على المؤامرة ما هو سوى هروبٌ للأمام لتبرير فشل سياسات الحكومات والأنظمة وسُوء إدارتها لبلدانها التي تفشّى فيها كل أشكال التخلف والفساد والفقر والبطالة والبيروقراطية والروتين وغياب حُكم القانون والمؤسسات وتعميم ثقافة المزارِع والمحسوبيات واحتكار السلطة والنفوذ، وتقليص حجم المشاركة الشعبية وتشديد القبضة الأمنية وخنق الرأي الآخر لدرجةٍ وصلت لتنفيذ حُكم الإعدام شنقا أو خنقا بحقِّ معارضٍ في قلب قنصلية بلادهِ ومن ثم تقطيع أوصال الجثة..
وهنا تملكني الدهشة: لقد تمّ تنفيذ حُكم الإعدام خنقا، فلماذا تقطيع الجثة ومن ثمّ إخفاؤها؟.. هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين!.. مهما تمّ تبرير ذلك بالخطأ فإنه يبقى عملا مشينا متوحشا لا تفعله إلا الوحوش المفترسة، ولكن في النظام الرسمي العربي ، على العموم، يتحولون حالا إلى وحوش مفترسة إذا ما عارضَهم أحدا ،أو هدد عروشهم ..
ولكن دعونا نفترض أن كل ما يجري في المنطقة العربية هو مؤامرة، فأليس من حقنا أن نسأل: لماذا يتمكن أعداء الأمة من تنفيذ مؤامراتهم بهذه السهولة والبساطة؟. هل لأننا ضعفاء؟. كلّا نحن لسنا ضعفاء كبُلدانٍ عربية، ونمتلك العديد جدا من عوامل القوة... فلدينا شعوبا واسعة وعريضة.. ولدينا ثروات اقتصادية هائلة.. ولدينا جيوشا جرّارة.. ونمتلك أسلحة حديثة ومتطورة.. ولدينا مساحات شاسعة من الأوطان ومواقع جغرافية إستراتيجية بالغة الأهمية.
إذا لماذا نبدو ضعفاء ويُمكِن لأعدائنا تنفيذ مخططاتهم بنا بسهولة؟. الجواب بسيط، وهو لأن شعوبنا العربية لا تمتلك الإرادة والقرار، ولا تمتلك الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، ومفهوم المواطَنة غائب بالكامل مع غياب العدالة وانتشار الظلم، والناس تشعر أنها غرباء في أوطانها بسبب الفقر والتهميش للغالبية الساحقة من أبناء الشعب لِحساب شريحة ضيقة من أهل المال والثراء والسلطة، وظهور إقطاع سياسي طُفيلي وُلِدَ من رحمِ الفساد، يحتكر السلطة والمناصب في كل مكان..
هناك مشكلة كُبرى على مستوى النظام الرسمي العربي وحكوماتهِ وهي أنها تختزل الأوطان والوطنية بشخصها وتتصرف بدولها كما لو كانت مزارِع مملوكة، لا تحكمها مؤسسات ولا قوانين ولا أنظمة ولا معايير ولا أحدا يخضع للمحاسبة إلا الفقير والضعيف، ولأتفه الأسباب.. يرفعون من شأن من يشاؤون ويخفضون من شأن من يشاؤون بحسب الأمزجة والمحسوبيات والقرابات ومستوى الولاء والطاعة.. أو حسب المحاصصات الطائفية والمناطقية والعشائرية .. هذه هي المؤامرة الحقيقية وليس سواها..
إذا بالمحصلة لا توجد دولا بمعنى الدول من حيث سلطة المؤسسات والقانون وتداوُل السُلطة وامتلاك الشعوب لقرارها وإرادتها والقدرة على تغيير حكامها عبر عمليات ديمقراطية تعددية وصناديق الاقتراع.. إنها دولٌ بالاسم فقط ولذلك تسهل هزيمتها والتآمر عليها.
لم يُدرِك النظام الرسمي العربي حتى اليوم أن "الديمقراطية" هي أهم عوامل القوة لأيِّ بلدٍ في هذا الزمن.. فالديمقراطية تعني قوة الحكومة التي تُدير شؤون الدولة لأنها تكون مسنودة من الشعب وتعني قوة الشعب وتلاحمهِ مع بعض وشعور كل مواطِن بقيمته ووجوده ومكانته في وطنهِ وأن له دورا في الوطن وهو من يأتي بالمسئولين وهو أيضا من يستبدلهم من خلال إرادة جماعية يتم التعبير عنها في صناديق الاقتراع، وحينما تكون الحكومة قوية والشعب قويا فلا يمكن لأحدٍ أن يهزَم الدولة مهما يكن.
الحكومات العربية تبدو وكأنها خصما لشعوبها، وتخشى دوما على سلطتها وعروشها وتيجانها وامتيازاتها، من هذا الشعوب. لماذا؟. هل لأنها تُدرِك أن وجودها لا يحظى بدعمٍ شعبي وبالتالي تلجأ إلى كل أشكال القمع للمعارضين حتى لو كان على الشبهة؟. هل يوجد سجنا واحدا في أي بلدٍ عربي من المحيط إلى الخليج يخلو من السجناء السياسيين ؟. لماذا ؟. ما علاقة المؤامرة الأجنبية بذلك؟. بل هل المؤامرة هي من أملَتْ على الحكومات هذه السياسات في إضعاف دور الشعوب والحؤول دون امتلاك القرار والإرادة، أم أن هذه قرارات الحكومات ذاتها؟. حينما تضعف الشعوب يسهل دخول المؤامرة، ولذلك فأعداء الأمة والمتربصون بها يقتنصون الفُرص فقط، وليسوا هُم من يصنعونها، الحكومات هي من تصنعها.. الإنسان حينما يعيش القهر والظلم سوف يستعين بكل ما يمكن أن يخلصه من هذا القهر والظلم.
أعداء الأمة والمتربصون بها يعرفون ما هي أمراض شعوبنا العربية فيتسللون من خلالها، ويُعمّقون الجراح، ولكننا نحن من صنعنا الجراح بالأساس.. أعداء الأمة لم يكونوا أيام صفِّين والجَمل وكربلاء، ولم يقولوا لنا أحمِلوا في أعماقكم الأحقاد والكراهية والتفرقة والتشرذم والحروب إلى أبد الآبدين.. هُم اكتشفوا فقط نقاط ضعفنا وعوامل تشتتنا واشتغلوا على تعميقها وتوسيعها ونحن نسير خلفهم كما النعاج..
أعداء الأمة فهموا التكوين النفسي لأسياد النظام الرسمي العربي ومدى شهوتهم للسلطة، وهكذا عرفوا نقاط الضعف لدى هذه الأنظمة وعرِفوا كيف يطوّعونها دوما من خلال تهديد السلطة، بل ويبتزونها بشكلٍ رخيص، كما يفعل الرئيس ترامب، وهي تستجِب وتقبل الابتزاز لأن العروش فوق كل شيء ودونها تهون الأوطان والشعوب والثروات والكرامات... كمْ مائة مليار دولار قدّمتها السعودية للرئيس ترامب ثمنا لبوليصة التأمين على السلطة!..
من هنا يمكننا القول أن سهولة تنفيذ المؤامرات على بُلداننا العربية وعلى أوطاننا لا يُمكن أن نعزوها إلا لطبيعة النظام الرسمي العربي، ونُخبهِ الحاكمة المعنية أولا وثانيا وثالثا وأخيرا بكيفية المحافظة على العروش، وتغييبها لدور الشعوب.. ودون العروش فليكُن ما يكون..
هذه ثقافة عربية جاهلية ما زالت متأصلة في تكوين الإنسان العربي، النفسي والذهني والعقلي والفكري.. وحتى الإسلام لم يستطِع أن ينزعها ويقضي على هذه العقلية.. ولذلك ما إن رحل الرسول (صلعم) حتى بدأ الصراع والاقتتال والحروب، وكلها كانت حروبا سياسية لأجل السلطة..
أحد الحُكّام المسلمين له قولٌ شهير يلخص كل البُنى العقلية والذهنية والفكرية للعقل العربي ، يقول فيه: (إنّا لا نَحُولُ بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكِنا(، وفي مكانٍ آخرٍ بيننا وبين سُلطاننا .. أي حينما يحاولون نزع المُلكْ والسُلطة منا فسوف نحولُ بينهم وبين رقابهم. يعني سنقطعها.. أليس هذا تاريخ الحكام العرب منذ ما بعد الخلافة الراشدية وحتى اليوم ؟.. فما علاقة المؤامرة بذلك؟. هل المؤامرة هي من صنّعتْ وركّبت هذا العقل العربي؟. هل المؤامرة هي من طلبتْ من رئيس عربي يتحرك على كرسي أن يبقى ملتصقا بكرسي السلطة؟. هل المؤامرة هي من طلبتْ من بعض الحكام أن يغامروا ويقامروا بحياتهم وحياة أولادهم ويموتون قتلا وإعداما ولا يقبلون أن يشاركوا شعوبهم السلطة؟.
للأسف الشديد، الشعوب لا تدخل ضمن حسابات النظام الرسمي العربي على الإطلاق.. ولذا نجد هذه الشعوب تهاجر من بلدانها، ليس فقط طلبا للعيش ولقمة العيش وفرصة العمل، أو هربا من الحروب والاستبداد، وإنما لأجلِ الأمن والأمان والحرية والكرامة والحق في التفكير والتعبير والكلام والموقف، والحياة بشكل طبيعي كما يجب أن يعيش كل إنسان.. لقد باتَ الإنسان العربي يجدُ ذاتهُ في بلاد الاغتراب (في بلاد الاستعمار) حيث تنفتح أمامه آفاق الحياة والعمل والإبداع والتفكير الحر، ويتمتع بكل حقوق الإنسان، ويشغل المواقع المتقدمة في مجال العمل الحر والبزنس والسياسة والعِلم والإعلام، ويجد في الغربة كل ما يفتقدهُ في بلادهِ من حرية وكرامة ومكانة واعتبار، إذ أن بلدان العرب كلها تأممتْ للنخب الحاكمة ومن لفّ لفيفها من منتفعين وأهل وأصحاب..
ياليت لو كانت منظومات الُحكم العربي عنيدة في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل كما هي ضد شعوبها.. كنا حرّرنا فلسطين منذ زمن.. أو على الأقل كنا أنشأنا دولة فلسطينية على حدود 1967 رغما عن أنف إسرائيل وأمريكا، وما كنا ننتظر ماذا سيقول أخيرا ترامب، وماذا سيعرض علينا...
لا حاجة للاستعمار أن يتآمر.. فما يقوم به النظام الرسمي العربي بحق الشعوب والأوطان، يلبي كل أهداف ومشاريع الاستعمار دون أن يخسر هذا الاستعمار شيئا.. أليستْ هذه هي الحقيقة !!.
وأخيرا أضم صوتي لصوت الأستاذ عبد الباري عطوان وأتمنى أن يقوم الرئيس البشير بإيجاد طريقة مُشرِّفة للخروج من السلطة على غرار ما يفعله رئيس موريتانيا أحمد ولد عبد العزيز الذي أحييه لِرفضهِ تعديل الدستور والبقاء لفترة ثالثة في الحكم، ودَعَم ترشيح وزير الدفاع للترشح للرئاسة.. وحتى لا تنزلق السودان إلى ما لا تُحمَد عُقباه وتتحول إلى حالة شبيهة بحالة الصومال أو ليبيا .. أعتقد تكفي البشير ثلاثون عاما ... ومن سيأتي بعد البشير تكفيه فترتين كل منهما أربع سوات.. هذا إن قرر الشعب ذلك..
آن الأوان لتحميل الشعوب المسؤولية باختيار قياداتها بكل حرية ولفترات محدودة غير قابلة للتمديد ولا للتعديل، وحينما تقع أية أزمة داخلية تتم العودة حالا للشعب وهذه تدلي بدلوها عبر صناديق الاقتراع وتقرر ماذا تريد.. كم مرّة في اليونان اختلفوا ، وفي كل مرة كانوا يرجعون للشعب وهذا يقول الكلمة الفصل .. ولذا لم تدخل البلد في دوامة الحرب والاقتتال الداخلي .. تعلموا من ماضيهم..
كل عربي هو عزيز على قلبي ، في فلسطين وخارج فلسطين، ولذا أحزن لِموت هذا الإنسان العربي.. في إسرائيل سلطة استعمارية عدوّة لِشعب فلسطين ولذا لا يهمها موت الإنسان الفلسطيني، ولكن ماذا عن الإنسان العربي في قلب بلاده وفي ظل حكوماتها الوطنية !!.
راي اليوم – كاتب ودبلوماسي سوري سابق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.