لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل ما يجري في السودان هو حقّا مؤامرة؟.. ولماذا يتجاهل الرئيس البشير مسؤوليته عن انفجار الشعب؟.. وهل الشعوب أداة طيّعة لهذه الدرجة بيد الأعداء حتى يحركونها بالريموت كونترول متى ما شاؤوا؟

لم يتوانى الرئيس السوداني عمر البشير في كل ظهورٍ له أمام الجماهير مُلوحا بعصاهُ، عن اتهام المتظاهرين والمحتجين بأنهم مدفوعون من الخارج وينفذون أجندات خارجية .. ولكنه لم يُوضح ولا مرّة من هو هذا الخارج الذي يدفع ويحرك شعب السودان في وجه حاكمه. ولم يُقدّم أية دلائل وإثباتات تؤكد وجهة نظره .
يركز في هجومه على الشيوعيين والبعثيين وأنهم هُم من يحرك الشارع.. وفي الآونة الأخيرة بات تركيزهُ أكثر على الشيوعيين ..
بكل الأحوال إن كان البعثيون والشيوعيون هم من يفعلوها فإنّ هذه ليست تهمة بل على العكس إنها ميّزة للشيوعيين والبعثيين إن كانت لهم هذه الشعبية وأنهم قادرون على تحريك الشارع السوداني لأجل الانتقال إلى نظام حُكم آخر يقوم على الإرادة الشعبية.
فالشيوعيون والبعثيون في السودان هُم قبل أي شيء سودانيون ، ومن أبناء الشعب السوداني ولهم كل الحق أن يمارسوا نشاطهم السياسي في المجتمع السوداني، وأن يعبروا عن وجهات نظرهم ومعارضتهم لِحكم الرئيس البشير، وأن يقوموا بالمظاهرات والاحتجاجات على الأوضاع المعيشية المزرية.. وعلى الرئيس البشير أن يلوم نفسهُ لأنه سمح للبلاد أن تصل إلى هذه الأحوال المزرية على مدى ثلاثين عاما ، حتى فاض الكيل وما عاد الصبر ممكنا ..
لو كان ما يزال الاتحاد السوفييتي موجودا لرُبما كنا اقتنعنا أن الشيوعيين يتحركون بأوامر من موسكو .. ولكن البشير اليوم صديقا لموسكو .. ولو كانت ما تزال هناك قيادة قومية لحزب البعث في سورية أو العراق لقلنا، أن البعثيين في السودان ينفذون أجندة دمشق أو بغداد ، ولكن البشير هو صديق اليوم لدمشق وأول رئيس عربي يقوم بزيارة دمشق بعد سنين من القطيعة.. فضلا عن أن البعث محظورٌ في العراق ، وفي سورية لم يعُد له الدور الذي كان أيام زمان، والنشاط على الصعيد القومي لِحزب البعث غير موجود وكل نشاطه يتركز في الإطار الوطني الداخلي ..
باتت كل الشعوب العربية تدرك أنه مجّرد أن تخرج مظاهرة ضد الحُكم في أي مكان على الساحة العربية، وتطالب بالإصلاح والتغيير، ومكافحة الفساد والفقر والبطالة والغلاء، وتطالب بتطبيق القانون على الجميع ، وبالمحاسبة والمساءلة، وبناء دولة قانون ومؤسسات ، يخرج النظام الرسمي الحاكم وإعلامه والمدافعين عنه حالا ويهربون للأمام ويلقون بالمسؤولية على المؤامرة ومخططات الامبريالية والصهيونية والاستعمار. بينما في حقيقة الأمر المسألة ليست مؤامرة وإنما هي فقرٌ وجوعٌ وغلاء وبطالة وفساد واستبداد وظلم وتمييز .
النظام الرسمي العربي الحاكم لا يعترف بكل ذلك حتى لا يدين نفسه ويتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلده، ولذا أسهل شيء الحديث عن مؤامرة وتحميلها المسؤولية وإطلاق أوصاف العمالة والخيانة والمندسين والمندفعين من الخارج لتنفيذ أجندات تخريبية. مع أن واقع الحال فإن أكبر مؤامرة هي الفساد ونهب ثروات الشعوب واحتكارها بأيدٍ محدودة ، وإلغاء أي دور للشعوب ..
يقول المثل الشعبي : الولد الذي لا يصرخ لا تُطعِمه أمهُ.. وهذا هو حال الشعوب العربية مع حكوماتها... فلا يلتفتون إلى معاناة الشعوب وفقرها وبؤسها وحرمانها، إلا بعد أن يفيض الكيل بها وتخرج للشوارع بعشرات الآلاف وهي تصرخ ملء حناجرها: " الشعب يريد إسقاط النظام" .. حينها فقط تصحو الحكومات من نومها وتلتفت لشعوبها، وتبدأ السعي الدؤوب لامتصاص الغضب، بالوعود العسلية .. تماما كما يفعل الرئيس البشير..
يقول الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل: المؤامرة موجودة في التاريخ ولكن ليس كل التاريخ مؤامرة.
فقط النظام الرسمي العربي ينظر لكل شيء بعين المؤامرة .. وهذا وسواس خنّاس يلزمهُ العلاج النفسي ..
خرج في فرنسا أصحاب السترات الصفراء باحتجاجات بعشرات الآلاف في مدن عديدة، ولزمنِ طويلٍ، ولكن لم نسمع أن أي مسؤول فرنسي اتهمهم بالتآمر والخيانة والعمالة, أو غير ذلك.. بل الجميع كان يسترضيهم، وتمّت الاستجابة لمطالبهم، وتمت الدعوة إلى حوار وطني على مستوى فرنسا كلها، وتحاورت الحكومة مع ممثلي النقابات وأصغت لهم، وتفهمّت مطالبهم.. وهكذا...
الرئيس البشير يشغل السلطة منذ ثلاثون عاما، وهو يقول أن بلاده مُستهدّفة منذ عشرون عاما.. أي عُمر المؤامرة على السودان عشرون عاما، مما يعني خلال السنوات العشر الأولى من حُكم البشير لم تكُن هناك مؤامرة، ولكن بعد عشر سنوات من استلام البشير للسلطة جاءت المؤامرة.. واليوم هو يتذرّع بها ..
النظام في المغرب يقول أنه يتعرض لمؤامرة من خلال مشكلة الصحراء الغربية، والنظام في الجزائر يقول أنه يتعرض للمؤامرة من خلال المعارضة الإسلامية .. والنظام في السعودية يقول أن هناك مؤامرة كونية على السعودية.. وفي الإمارات يتحدثون عن مؤامرة أخوانية.. وفي العراق مؤامرة.. وفي لبنان مؤامرة.. وفي موريتانيا مؤامرات انقلابية دوما.. وفي مصر مؤامرة .. وفي ليبيا مؤامرة .. وفي البحرين مؤامرة.. وفي قطر مؤامرة، وفي اليمن مؤامرة..وفي الصومال مؤامرة .. أخبروني عن نظام رسمي عربي واحد لا يدّعي أنه يتعرّض للمؤامرة!!..
في كل مكان على الساحة العربية هناك مؤامرة، كما يروق للنظام الرسمي العربي أن يصرِّح.. ومَن هُم أصحاب المؤامرة ؟. إنها الشعوب العربية، فهذه " تهوى المؤامرة وتعشق التآمر"، لأنها لم تعُد قادرة على المزيد من الظلم والقهر والفقر والفساد والنّهب لثرواتها، ولكن خجلَا وحياءً فلا يقولون أن هذه الشعوب متآمرة، وإنما يقولون أن من حرّك هذه الشعوب هي فئات مُندسّة مرتزقة عميلة مُرتبِطة بالخارج وهي تُنفِّذ مشاريع خارجية ضد أنظمة الحُكم " الوطنية الشريفة النزيهة التي تجوع كي يشبع الشعب وتبرُد كي يتدفأ الشعب، وتفقَر كي يكتفي الشعب" !!. مسكينة الحكومات العربية إنها تستحق الشفقة، فهي دوما ضحية التآمر من هذه الشعوب "المرتبطة بالخارج والتي تُدار بالريموت كونترول من الخارج".. أليس هذا مثيرا للسخرية!..
وإن كنّا سنأخذ بنظرية الحكومات، فأليس من حقنا أن نسأل : كيف تمكن الخارج من التأثير على الشعوب ودَفعِها للشوارع ضد حكوماتها وأنظمتها، رغم وجود كل أجهزة الدولة بين أيدي هذه الحكومات؟. ولماذا استجابت هذه الشعوب لصوت الخارج ولم تستجِب لأصواتِ حكوماتها؟. ألَا توجدُ أسباب لذلك؟. ما هي ؟. هل تتوفّر الشجاعة لدى أي حكومة عربية لتعترف بأغلاطها بحق شعبها وتتحمّل المسؤولية عن ذلك؟. لا أحدا منها يعترف بأغلاطه، الأغلاط دوما هي من طرف الشعوب !..
صحيح أن المؤامرات موجودة في تاريخ البشرية، ولكن من السُخف أن نعزو كل شيء إلى نظرية المؤامرة، كما يحلو دوما للحكومات العربية.. فهذا غير صحيح..
مشاكل ومصائب البلدان العربية هي ذاتها،أو متقاطعة جدا، ومتشابهة جدا في كل مكان (إذا ما استثنينا بحبوحة العيش في بعض دول الخليج العربي وهذا ما يجعل شعوبها صامتة نسبيا)، وإلقاء اللوم بكل شيء على المؤامرة ما هو سوى هروبٌ للأمام لتبرير فشل سياسات الحكومات والأنظمة وسُوء إدارتها لبلدانها التي تفشّى فيها كل أشكال التخلف والفساد والفقر والبطالة والبيروقراطية والروتين وغياب حُكم القانون والمؤسسات وتعميم ثقافة المزارِع والمحسوبيات واحتكار السلطة والنفوذ، وتقليص حجم المشاركة الشعبية وتشديد القبضة الأمنية وخنق الرأي الآخر لدرجةٍ وصلت لتنفيذ حُكم الإعدام شنقا أو خنقا بحقِّ معارضٍ في قلب قنصلية بلادهِ ومن ثم تقطيع أوصال الجثة..
وهنا تملكني الدهشة: لقد تمّ تنفيذ حُكم الإعدام خنقا، فلماذا تقطيع الجثة ومن ثمّ إخفاؤها؟.. هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين!.. مهما تمّ تبرير ذلك بالخطأ فإنه يبقى عملا مشينا متوحشا لا تفعله إلا الوحوش المفترسة، ولكن في النظام الرسمي العربي ، على العموم، يتحولون حالا إلى وحوش مفترسة إذا ما عارضَهم أحدا ،أو هدد عروشهم ..
ولكن دعونا نفترض أن كل ما يجري في المنطقة العربية هو مؤامرة، فأليس من حقنا أن نسأل: لماذا يتمكن أعداء الأمة من تنفيذ مؤامراتهم بهذه السهولة والبساطة؟. هل لأننا ضعفاء؟. كلّا نحن لسنا ضعفاء كبُلدانٍ عربية، ونمتلك العديد جدا من عوامل القوة... فلدينا شعوبا واسعة وعريضة.. ولدينا ثروات اقتصادية هائلة.. ولدينا جيوشا جرّارة.. ونمتلك أسلحة حديثة ومتطورة.. ولدينا مساحات شاسعة من الأوطان ومواقع جغرافية إستراتيجية بالغة الأهمية.
إذا لماذا نبدو ضعفاء ويُمكِن لأعدائنا تنفيذ مخططاتهم بنا بسهولة؟. الجواب بسيط، وهو لأن شعوبنا العربية لا تمتلك الإرادة والقرار، ولا تمتلك الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، ومفهوم المواطَنة غائب بالكامل مع غياب العدالة وانتشار الظلم، والناس تشعر أنها غرباء في أوطانها بسبب الفقر والتهميش للغالبية الساحقة من أبناء الشعب لِحساب شريحة ضيقة من أهل المال والثراء والسلطة، وظهور إقطاع سياسي طُفيلي وُلِدَ من رحمِ الفساد، يحتكر السلطة والمناصب في كل مكان..
هناك مشكلة كُبرى على مستوى النظام الرسمي العربي وحكوماتهِ وهي أنها تختزل الأوطان والوطنية بشخصها وتتصرف بدولها كما لو كانت مزارِع مملوكة، لا تحكمها مؤسسات ولا قوانين ولا أنظمة ولا معايير ولا أحدا يخضع للمحاسبة إلا الفقير والضعيف، ولأتفه الأسباب.. يرفعون من شأن من يشاؤون ويخفضون من شأن من يشاؤون بحسب الأمزجة والمحسوبيات والقرابات ومستوى الولاء والطاعة.. أو حسب المحاصصات الطائفية والمناطقية والعشائرية .. هذه هي المؤامرة الحقيقية وليس سواها..
إذا بالمحصلة لا توجد دولا بمعنى الدول من حيث سلطة المؤسسات والقانون وتداوُل السُلطة وامتلاك الشعوب لقرارها وإرادتها والقدرة على تغيير حكامها عبر عمليات ديمقراطية تعددية وصناديق الاقتراع.. إنها دولٌ بالاسم فقط ولذلك تسهل هزيمتها والتآمر عليها.
لم يُدرِك النظام الرسمي العربي حتى اليوم أن "الديمقراطية" هي أهم عوامل القوة لأيِّ بلدٍ في هذا الزمن.. فالديمقراطية تعني قوة الحكومة التي تُدير شؤون الدولة لأنها تكون مسنودة من الشعب وتعني قوة الشعب وتلاحمهِ مع بعض وشعور كل مواطِن بقيمته ووجوده ومكانته في وطنهِ وأن له دورا في الوطن وهو من يأتي بالمسئولين وهو أيضا من يستبدلهم من خلال إرادة جماعية يتم التعبير عنها في صناديق الاقتراع، وحينما تكون الحكومة قوية والشعب قويا فلا يمكن لأحدٍ أن يهزَم الدولة مهما يكن.
الحكومات العربية تبدو وكأنها خصما لشعوبها، وتخشى دوما على سلطتها وعروشها وتيجانها وامتيازاتها، من هذا الشعوب. لماذا؟. هل لأنها تُدرِك أن وجودها لا يحظى بدعمٍ شعبي وبالتالي تلجأ إلى كل أشكال القمع للمعارضين حتى لو كان على الشبهة؟. هل يوجد سجنا واحدا في أي بلدٍ عربي من المحيط إلى الخليج يخلو من السجناء السياسيين ؟. لماذا ؟. ما علاقة المؤامرة الأجنبية بذلك؟. بل هل المؤامرة هي من أملَتْ على الحكومات هذه السياسات في إضعاف دور الشعوب والحؤول دون امتلاك القرار والإرادة، أم أن هذه قرارات الحكومات ذاتها؟. حينما تضعف الشعوب يسهل دخول المؤامرة، ولذلك فأعداء الأمة والمتربصون بها يقتنصون الفُرص فقط، وليسوا هُم من يصنعونها، الحكومات هي من تصنعها.. الإنسان حينما يعيش القهر والظلم سوف يستعين بكل ما يمكن أن يخلصه من هذا القهر والظلم.
أعداء الأمة والمتربصون بها يعرفون ما هي أمراض شعوبنا العربية فيتسللون من خلالها، ويُعمّقون الجراح، ولكننا نحن من صنعنا الجراح بالأساس.. أعداء الأمة لم يكونوا أيام صفِّين والجَمل وكربلاء، ولم يقولوا لنا أحمِلوا في أعماقكم الأحقاد والكراهية والتفرقة والتشرذم والحروب إلى أبد الآبدين.. هُم اكتشفوا فقط نقاط ضعفنا وعوامل تشتتنا واشتغلوا على تعميقها وتوسيعها ونحن نسير خلفهم كما النعاج..
أعداء الأمة فهموا التكوين النفسي لأسياد النظام الرسمي العربي ومدى شهوتهم للسلطة، وهكذا عرفوا نقاط الضعف لدى هذه الأنظمة وعرِفوا كيف يطوّعونها دوما من خلال تهديد السلطة، بل ويبتزونها بشكلٍ رخيص، كما يفعل الرئيس ترامب، وهي تستجِب وتقبل الابتزاز لأن العروش فوق كل شيء ودونها تهون الأوطان والشعوب والثروات والكرامات... كمْ مائة مليار دولار قدّمتها السعودية للرئيس ترامب ثمنا لبوليصة التأمين على السلطة!..
من هنا يمكننا القول أن سهولة تنفيذ المؤامرات على بُلداننا العربية وعلى أوطاننا لا يُمكن أن نعزوها إلا لطبيعة النظام الرسمي العربي، ونُخبهِ الحاكمة المعنية أولا وثانيا وثالثا وأخيرا بكيفية المحافظة على العروش، وتغييبها لدور الشعوب.. ودون العروش فليكُن ما يكون..
هذه ثقافة عربية جاهلية ما زالت متأصلة في تكوين الإنسان العربي، النفسي والذهني والعقلي والفكري.. وحتى الإسلام لم يستطِع أن ينزعها ويقضي على هذه العقلية.. ولذلك ما إن رحل الرسول (صلعم) حتى بدأ الصراع والاقتتال والحروب، وكلها كانت حروبا سياسية لأجل السلطة..
أحد الحُكّام المسلمين له قولٌ شهير يلخص كل البُنى العقلية والذهنية والفكرية للعقل العربي ، يقول فيه: (إنّا لا نَحُولُ بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكِنا(، وفي مكانٍ آخرٍ بيننا وبين سُلطاننا .. أي حينما يحاولون نزع المُلكْ والسُلطة منا فسوف نحولُ بينهم وبين رقابهم. يعني سنقطعها.. أليس هذا تاريخ الحكام العرب منذ ما بعد الخلافة الراشدية وحتى اليوم ؟.. فما علاقة المؤامرة بذلك؟. هل المؤامرة هي من صنّعتْ وركّبت هذا العقل العربي؟. هل المؤامرة هي من طلبتْ من رئيس عربي يتحرك على كرسي أن يبقى ملتصقا بكرسي السلطة؟. هل المؤامرة هي من طلبتْ من بعض الحكام أن يغامروا ويقامروا بحياتهم وحياة أولادهم ويموتون قتلا وإعداما ولا يقبلون أن يشاركوا شعوبهم السلطة؟.
للأسف الشديد، الشعوب لا تدخل ضمن حسابات النظام الرسمي العربي على الإطلاق.. ولذا نجد هذه الشعوب تهاجر من بلدانها، ليس فقط طلبا للعيش ولقمة العيش وفرصة العمل، أو هربا من الحروب والاستبداد، وإنما لأجلِ الأمن والأمان والحرية والكرامة والحق في التفكير والتعبير والكلام والموقف، والحياة بشكل طبيعي كما يجب أن يعيش كل إنسان.. لقد باتَ الإنسان العربي يجدُ ذاتهُ في بلاد الاغتراب (في بلاد الاستعمار) حيث تنفتح أمامه آفاق الحياة والعمل والإبداع والتفكير الحر، ويتمتع بكل حقوق الإنسان، ويشغل المواقع المتقدمة في مجال العمل الحر والبزنس والسياسة والعِلم والإعلام، ويجد في الغربة كل ما يفتقدهُ في بلادهِ من حرية وكرامة ومكانة واعتبار، إذ أن بلدان العرب كلها تأممتْ للنخب الحاكمة ومن لفّ لفيفها من منتفعين وأهل وأصحاب..
ياليت لو كانت منظومات الُحكم العربي عنيدة في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل كما هي ضد شعوبها.. كنا حرّرنا فلسطين منذ زمن.. أو على الأقل كنا أنشأنا دولة فلسطينية على حدود 1967 رغما عن أنف إسرائيل وأمريكا، وما كنا ننتظر ماذا سيقول أخيرا ترامب، وماذا سيعرض علينا...
لا حاجة للاستعمار أن يتآمر.. فما يقوم به النظام الرسمي العربي بحق الشعوب والأوطان، يلبي كل أهداف ومشاريع الاستعمار دون أن يخسر هذا الاستعمار شيئا.. أليستْ هذه هي الحقيقة !!.
وأخيرا أضم صوتي لصوت الأستاذ عبد الباري عطوان وأتمنى أن يقوم الرئيس البشير بإيجاد طريقة مُشرِّفة للخروج من السلطة على غرار ما يفعله رئيس موريتانيا أحمد ولد عبد العزيز الذي أحييه لِرفضهِ تعديل الدستور والبقاء لفترة ثالثة في الحكم، ودَعَم ترشيح وزير الدفاع للترشح للرئاسة.. وحتى لا تنزلق السودان إلى ما لا تُحمَد عُقباه وتتحول إلى حالة شبيهة بحالة الصومال أو ليبيا .. أعتقد تكفي البشير ثلاثون عاما ... ومن سيأتي بعد البشير تكفيه فترتين كل منهما أربع سوات.. هذا إن قرر الشعب ذلك..
آن الأوان لتحميل الشعوب المسؤولية باختيار قياداتها بكل حرية ولفترات محدودة غير قابلة للتمديد ولا للتعديل، وحينما تقع أية أزمة داخلية تتم العودة حالا للشعب وهذه تدلي بدلوها عبر صناديق الاقتراع وتقرر ماذا تريد.. كم مرّة في اليونان اختلفوا ، وفي كل مرة كانوا يرجعون للشعب وهذا يقول الكلمة الفصل .. ولذا لم تدخل البلد في دوامة الحرب والاقتتال الداخلي .. تعلموا من ماضيهم..
كل عربي هو عزيز على قلبي ، في فلسطين وخارج فلسطين، ولذا أحزن لِموت هذا الإنسان العربي.. في إسرائيل سلطة استعمارية عدوّة لِشعب فلسطين ولذا لا يهمها موت الإنسان الفلسطيني، ولكن ماذا عن الإنسان العربي في قلب بلاده وفي ظل حكوماتها الوطنية !!.
راي اليوم – كاتب ودبلوماسي سوري سابق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.