كتبت / صابرة دوح /كاتبة تونسية /جريدة العرب اللندنية قيادات في الحركة الإسلامية السودانية تجد في الحراك الشعبي المستمر فرصة مواتية لتنحي الرئيس عمر حسن البشير والاستعاضة عنه ببديل من رحم الحركة ذاتها، وتراهن هذه القيادات على دعم كل من قطروتركيا. كشفت التحركات الاحتجاجية الأخيرة التي ضربت أنحاء واسعة في السودان، عمق الأزمة التي يعيشها نظام الرئيس عمر حسن البشير القائم على توليفة فريدة وهي المزاوجة بين الحركة الإسلامية والمؤسسة العسكرية. وتقول دوائر سياسية سودانية إن الحراك المستمر والذي يرجح أن يتصاعد نسقه في الأيام المقبلة، عرى حجم الصراع الذي يعصف بالنظام نفسه، والذي حاول البشير طيلة العقود الماضية ضبط إيقاعه وفق ما تقتضيه المرحلة تارة بإعلاء شأن الحركة الإسلامية على حساب المؤسسة العسكرية (وهو ما برز مع انطلاقة ما سمي بالربيع العربي) وطورا بتقريب قيادات الأخيرة وتحجيم الحركة، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في السنوات الأربع الماضية، خاصة مع وجود ضغوط دولية وإقليمية تطالب بضرورة وضع مسافة بين الحركة ومؤسسة الحكم. وتشير هذه الدوائر إلى أن تعاطي الرئيس البشير البراغماتي مع الطرفين ولد شعورا بالخذلان لدى الجانبين وإن كانت تبدو قيادات الحركة الإسلامية الأعلى صوتا. وبرزت مؤشرات عدة في الأيام الأخيرة توحي بأن هذه القيادات خاصة الراديكالية منها بوارد الانقلاب عليه مستغلة الضغوط الشعبية التي تطالب بتنحيه عن السلطة القابض على مفاصلها منذ العام 1989. ومن المؤشرات على إمكانية انقلاب الحركة مواقف الإسلاميين الصادرة في الداخل والتي تغذيها القوى الداعمة للتيار الإسلام السياسي وشخصياته البارزة في الخارج. ولا تتوانى هذه الأطراف عن إطلاق توصيفات أقرب للقدح لنظام البشير منها "حكم العسكر" مع تحميله مسؤولية الأزمات التي تعصف بالبلاد، فيما بدا محاولة لتبرئة ساحة الحركة الإسلامية. ومن المؤشرات البارزة الأخرى ذلك الموقف الذي اتخذته جماعة الإخوان المسلمين الثلاثاء، حيث أعلنت اعتزامها مع عدد من القوى معظمها خرجت من رحم الحركة الإسلامية على تقديم مذكرة للرئيس عمر البشير تدعوه فيها إلى تأسيس "مجلس سيادة انتقالي، لتسيير شؤون البلاد"، و"تشكيل حكومة قومية"، وهذه القوى نفسها من مؤثثي السلطة في السودان، وتتحمل قدرا مهما من المسؤولية عن الأوضاع في البلاد. وقال مسؤول بحزب المؤتمر الوطني الأربعاء إن المذكرة المطروحة هي بمثابة دعوة للقوات المسلحة إلى "الانقلاب على الحكم"، وهذا أمر مرفوض. وأضاف رئيس القطاع السياسي للحزب الحاكم عبدالرحمن الخضر، خلال مؤتمر صحافي الأربعاء، أن طرح هكذا وثيقة ينم عن "تصرف غير أخلاقي، وينسف المؤسسات القائمة". موقف أنقرةوالدوحة حيال ما يجري في السودان يعود إلى إدراكهما بأن البشير غير قادر هذه المرة على احتواء الأزمة وتحاول قيادات داخل الحركة الإسلامية أو محسوبة عليها الترويج إلى أنه على خلاف ما يقال فإن المؤسسة العسكرية بقيادة المشير عمر حسن البشير استغلت الحركة وقاعدتها الشعبية لضمان سيطرتها على مقاليد الحكم. وتستدل هذه القيادات في تبيان "المظلومية" التي تعرضت لها بعملية التطهير التي استهدفتهم داخل مؤسسات الدولة خاصة السيادية منها، في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الأخيرة بشكل كبير وتحولت إلى مجرد هيكل خاو ملحق بالرئاسة. ويرى محللون أن ما تسوق له الحركة الإسلامية هو محاولة للنأي بنفسها أمام الشارع السوداني عن تحمل المسؤولية، فيما آلت إليه أوضاع البلاد التي كان ينظر إليها على أنها "سلة الغذاء العربي"، لتصبح اليوم عاجزة حتى عن توفير قوت سكانها في ظل شح كبير في المواد الأساسية ومنها الطحين، ما أدى إلى ارتفاع سعر الخبز من 2 إلى 5 جنيهات. وتعتبر الحركة الإسلامية في السودان التي ظهرت في أربعينات القرن الماضي الركيزة التي بنى عليها نظام الرئيس عمر حسن البشير حكمه، فهي من أتت به في الأصل إلى السلطة عبر انقلاب قاده زعيمها الراحل حسن الترابي في العام 1989 بدعم من ضباط في الجيش السوداني على رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي (زعيم حزب الأمة القومي المعارض حاليا). وتعرضت الحركة منذ ظهورها إلى هزات عنيفة يعزوها البعض إلى وجود العديد من التيارات الإسلامية داخلها (سلفيين وإخوان مسلمين...). وقد شهدت الحركة على مر تاريخها انشقاقات كثيرة في صلبها، فكان أن خرجت من رحمها مجموعة كبيرة من جماعة الإخوان لتشكل تنظيما خاصا بها، ولعل الانشقاق الأبرز ذلك الذي حدث في العام 1999 حينما خرج زعيمها الراحل حسن الترابي على خلفية خلاف بينه والرئيس عمر البشير في سياق التنافس بينهما على السلطة ليشكل حزبا أطلق عليه "المؤتمر الشعبي" الذي يوجد اليوم في حكومة الوفاق الوطني. ورغم انشقاق المؤتمر الشعبي بيد أنه ظل لصيق الحركة الإسلامية ومدافعا رئيسيا عنها، حتى أنه وفر للحوار الوطني الذي طرحه الرئيس البشير في العام 2014 غطاء مهما ما أكسبه نوعا من المشروعية رغم مقاطعة قوى المعارضة الرئيسية له. ويقول مراقبون إن القيادة الحالية للمؤتمر الشعبي برئاسة علي الحاج محمد تبدو أقل حماسة حيال الحراك من بعض القيادات الصقورية داخل الحركة الإسلامية التي ترى أن هذا الحراك فرصة مواتية للانقلاب على البشير والركوب على الحدث، خاصة وأنها تعول في ذلك على دعم قوى خارجية على رأسها تركياوقطر اللتان أبدتا هما الأخريان تململا من سياسات البشير المتقلبة. ومنذ تفجر الحراك السوداني في مدينة عطبرة من ولاية النيل الأبيض شرق البلاد في 19 ديسمبر الماضي سجل تركيز إعلامي تركي لافت على التطورات هناك، فيما التزم نظام الرئيس رجب طيب أردوغان الصمت حيال ما يجري في السودان وكان الموقف الوحيد المسجل ذلك الذي صدر عن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية جودت يلماز حين استقبل السفير السوداني في أنقرة يوسف الكردفاني بعد أكثر من أسبوع من انطلاقة الاحتجاجات، حيث أكد فيه دعم حزبه للشعب السوداني وقيادته. وقد "تفانت" وكالة الأناضول التركية الرسمية في نقل وقائع الاحتجاجات مع الاستعانة بمحللين معارضين في ما بدا انحيازا بشكل غير مباشر للحراك، ما يوحي بأن لدى الوكالة ضوءا أخضر من النظام التركي. ويبدو أن الدوحة نفسها انصاعت للموقف التركي من البشير، فبعد إبداء موقف مساند للأخير في الأيام الأولى من الحراك خلال اتصال هاتفي أجراه الأمير تميم بن حمد آل ثاني مع الرئيس السوداني، وتغطية إعلامية قطرية محتشمة للأحداث سجل في الأيام الماضية تغير واضح لجهة تركيز قناة الجزيرة، الذراع الإعلامية الأبرز للدوحة، على التطورات في السودان. ويرى مراقبون أن موقف أنقرةوالدوحة حيال ما يجري في السودان يعود إلى إدراكهما بأن البشير غير قادر هذه المرة على احتواء الأزمة، حيث أن من يقود المظاهرات اليوم هم مواطنون عاديون أنهكتهم الأزمة ولم تعد لديهم ثقة في وعود النظام. ويشير المراقبون إلى أن النقطة الأهم والأبرز حيال الموقف التركي القطري دون تجاهل موقف التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي بدا مؤيدا للحراك، هي سياسة البشير القائمة على جمع الأضداد واللعب على المتناقضات، والمواقف المعومة، الأمر الذي يجعل من الصعب الرهان على شخصه كحليف موثوق، ومن هذا المنطلق تعتبران أن الأفضل تنحيه عن السلطة والاستعاضة عنه بشخصية من داخل الحركة الإسلامية موالية لهما بالكامل. وهذه النقطة تشكل إغراء كبيرا لقيادات الحركة الإسلامية، للانقلاب على البشير الذي تعتبره حاد عن مبادئ الحركة، والأخطر بدا منساقا للضغوط الإقليمية والدولية على وجه الخصوص لتحجيم الحركة الإسلامية وإقصائها من مؤسسات الحكم. وكانت الولاياتالمتحدة قد طرحت مع انطلاقة الجولة الثانية من الحوار مع الخرطوم قبل أشهر، حزمة من الشروط على النظام السوداني ضمن وثيقة أطلقت عليها "المسارات الخمس+ 1"، من بينها الابتعاد عن أي شبهة بدعم الحركات الإسلامية الراديكالية لشطب اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وتخشى قيادات الحركة الإسلامية من أن تكون أول الضحايا، وإن كان البشير حاول طمأنة الحركة بأنها باقية وأن المشروع الإسلامي مستمر في السودان. ويقول متابعون إن الحركة الإسلامية، أو شقا كبيرا في داخلها، تأمل في استمرار الحراك لأنها تعتبره فرصة لإعادة إنعاش مشروعها الإسلامي الذي تآكل في السنوات الأخيرة، ولديها قناعة بأنه حان الوقت لأن يركن البشير إلى الراحة ويعطي المشعل لأحد أبناء الحركة التي بفضلها استمر في الحكم طيلة ثلاثين سنة. صابرة دوح /كاتبة تونسية /جريدة العرب اللندنية