(شابة تتناول صبغة الشعر لخلافات أسرية)!! (شاب يقفز في النيل بعد رسوبه في الامتحانات)!! (العثور على رجل مشنوقاً داخل غرفته)!! مثل هذه الأخبار يتواتر في الصحف اليومية بصورة شبه دائمة، وما خفي منها كان أكثر، وكلها تصب في إبراز مشكلة الانتحار كمهدد طبي واجتماعي وأمني خطير ومقلق. { أكثر من سبب!! يمثل الانتحار من وجهة النظر الطبية النفسية تحدياً خطيراً، وهمّاً إكلينيكياً كبيراً. ووضع حد للحياة ومحاولة إيذاء النفس قد تكون ناجمة عن أسباب شتى يمكن تحديدها في القابلية والاستعداد الجيني لدى بعض الأشخاص والأسر التي تبرز فيها ظاهرة الانتحار.. إضافة للأمراض العضوية المزمنة والقاتلة مثل الأيدز واتهاب الكبد الفيروسي والفشل الكلوي والقلبي والسرطانات.. كما يبرز الإدمان وتعاطي المخدرات كعامل مهم في ازدياد نسبة الانتحار في البلاد، أضف إلى ذلك نوبات الاكتئاب الحاد والمزمن والشيزوفرينيا والفوبيا والاضطرابات النفسية عموماً، التي يمكن أن تؤدي إجمالاً للانتحار. وهناك أيضاً الصدمات النفسية الحادة كالفشل الأكاديمي أو العاطفي أو الخسارة بمختلف أشكالها، التي قد لا يحتملها الشخص.. وكذلك الضغوط النفسية والحياتية والاقتصادية، والشعور بعدم الأمان الاجتماعي والسياسي والحراك الاجتماعي الكثيف، وتأثير العولمة والفضائيات وغياب الوازع الأخلاقي والديني.. هذه كلها تتضافر لإنتاج الظاهرة محل النظر. { قمة جبل الجليد!! وقد ازدادت معدلات الانتحار والشروع فيه في الآونة الأخيرة عن غيرها من السنوات، رغم عدم وجود إحصائيات رسمية بسبب الوصمة الاجتماعية، والخوف من القانون الذي يعاقب على الشروع ويترحم عند الوفاة.. والأعداد التي يتم الكشف عنها لا تتجاوز (10%) من مجموع الحالات، مثل جبل الجليد الذي يبدو نحيفاً في القمة رغم اتساعه المخيف في القاعدة. والفئات الأكثر انتحاراً هي الرجال والمرضى عموماً، وتزداد النسبة في منتصف العمر وفي السن المتقدمة، والنساء يتحدثن ويهددن بالانتحار أكثر بكثير من الرجال، ولكن نادراً ما يقمن بذلك إلا في حالات معينة. { وسائل شائعة وأكثر الوسائل المتبعة في الانتحار من خلال الممارسة العملية هي القفز في المياة، والشنق، وتناول الصبغة والسم، والحرق، والسلاح الناري، ويوجد ما يسمى بالانتحار السلبي، وفيه يمتنع الشخص عن الأكل والشرب، أو تناول الدواء مثلاً، ويكثر في الاكتئاب النفسي. ومن العلامات المنذرة بقرب وقوع حالة الانتحار، نجد تغير السلوك، العزلة، اضطراب النوم والأكل، إيقاف الأنشطة المعتادة، الأزمات الحادة والشعورباليأس. والانتحار يمكن التعامل معه بالإنذار المبكر وتقديم الإرشاد النفسي والتوعية، وتوفير الدعم الاجتماعي والأسري كنوع من الوقاية، إضافة إلى إتاحة الفرصة لكل من تنتابه مثل هذه الرغبات للوصول إلى مراكز الطب النفسي، وفي حالة وقوع المحاولة يتم حجز المريض في المستشفى فوراً، وإقامة رقابة مشددة عليه لكي لا يؤذي نفسه بأية وسيلة حتى ولو كانت قلماً أو ملعقة، ومن ثم يعطى العلاج المناسب تحت إشراف الطاقم الطبي النفسي، وتكون النتائج في الغالب مبهرة جداً وممتازة. وبعدها يجب متابعة الشخص لفترة من الوقت خصوصاً الشهر الأول من المحاولة الأولى للانتحار، ويمكن تكوين مجموعات للدعم والتواصل مع هؤلاء الأشخاص لاحقاً. { المذكرة الانتحارية!! ومن الملاحظ عندنا قلة أو غياب ما يعرف بالمذكرة الانتحارية، وهي عبارة عن كتابة أو تسجيل مسموع أو مرئي للمنتحر أو المنتحرة للحديث عن دوافعه للانتحار، على عكس المجتمعات الغربية. وهذا راجع إلى روح الخجل من ما أقدموا عليه وقلة التعبير اللفظي عند الشخصية السودانية عموماً. ومن ما صادفني في مثل هذه المذكرات، ما كتبه أحد الشباب الذين انتحروا رمياً بالرصاص بعد قصة حب فاشلة (رحمه الله) حيث كتب (أهلي الأعزاء.. لقد أتعبتكم في حياتي وأرجو أن أريحكم بغيرها)، وقد كان موقفاً مؤثراً وبليغاً. { إصرار على الموت!! يذكر أن من يحاولون الانتحار ويفشلون في المرة الأولى غالباً ما يحاولون مرة ثانية ثالثة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. لذا وجب الاهتمام بذلك وتقديم الرعاية النفسية لهم فوراً. ومن الملاحظ كذلك غياب ظاهرة الانتحار الجماعي أو لأسباب فلسفية أو دينية، وهذا راجع إلى تركيبة الشخصية السودانية والشعور بالوصمة والحواجز الاجتماعية، على الرغم من الموروث الشعبي الذي يتجلى في المثل المعروف (موت الجماعة عرس)، فإنهم وإن أرادوا الموت يكون ذلك بعد أن ينفض سامر القوم!!