طالب سوداني كان يدرس بإحدى كليات جامعة الإسكندرية خرج مبكراً للحاق بالمحاضرة الأولى بالكلية، وعندما بدأ (كمساري) المترو يطرق على خشبة التذاكر التي يحملها قائلاً: (ورق) أدخل الطالب يده في جيبه ولم يجد النقود فازدادت ضربات قلبه وفكر كيف يواجه (الكمساري) فهمس في أذنه قائلاً (والله نسيت الفلوس في البنطلون الثاني).. (الكمساري) المصري لم يستر الطالب السوداني المسكين الذي يتمتع بحياء عالٍ وصاح حتى يسمع كل من في المترو (اسمعوا يا جدعان البيه بيقول نسى الفلوس في النطلون التاني، الجدع ما معاهوش تعريفة المترو وبيقول معاه بنطلون تاني).. الطالب السوداني أحس بالخجل والموقف المحرج الذي أدخله فيه (الكمساري) ونزل في أول محطة. تذكرت هذه الواقعة عندما قرأت تصريحاً نقل عن نائب رئيس الجمهورية الدكتور "الحاج آدم" وهو يقول إن الفرد قبل الإنقاذ لم يكن باستطاعته أن يمتلك قميصين والآن (كل الدواليب مليانة). المواطن السوداني مرّ بفترات متعددة.. عاش فيها حياة الدعة والراحة والنعيم، وكان يلبس أجمل الثياب وأرقاها، يلبس البناطلين والقمصان الإنجليزية والأحذية الإيطالية ويتعطر ب(الريحة الباريسية)، كان يركب التاكسي في معظم مشاويره، يأكل السمك والكبدة والكلاوي واللحم الضأن، كان يأكل (الكستليتة) ويدخل السينما الدور الأول في النيل الأزرق والثاني في الوطنية بحري أو أم درمان.. المواطن السوداني كانت إجازته في لندن والقاهرة وبيروت.. وعندما يدخل الطالب جامعة الخرطوم يتناول كل وجباته مجاناً وكمان معاه أصدقاؤه.. للطالب بجامعة الخرطوم سريران واحد داخلي والثاني خارجي، كان ملابسه تغسل وتكوى ويعطى منحة شهرية.. المواطن السوداني كان يوضع على مائدته صنفان من الطعام مع صحن ثالث سلطة.. قبل الإنقاذ وخلال الفترة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق "نميري" عانى الناس ولكن لم تقل ملابسهم ولم يقل أكلهم، والمعارضة ساهمت في خلق كثير من الأزمات تضرر منها المواطن، وكذا عندما جاءت الديمقراطية الثالثة، وعندما جاءت الإنقاذ عانى المواطن أكثر، وجبر على تناول الشاي والقهوة بالبلح والحلاوة.. صبر على تناول وجبتين في اليوم بدلاً عن ثلاث، وظلت معاناة المواطن في ازدياد يوماً بعد يوم إلى أن تفجر البترول وعاش المواطن خلال تلك الفترة حالة الرفاهية، فعادت الفاكهة التي افتقدتها الأسواق كالتفاح والعنب والكمثرى والخوخ.. عادت حالة الرفاهية للشعب السوداني الذي عاش أسوأ أوقات حياته، وتغير الحال وتبدل، ولبس المواطن البناطلين والقمصان التي تأتيه من دبي ومن لندن ومن ماليزيا والصين.. انتعش الاقتصاد السوداني وارتفع سعر الجنيه مقارنة بسعر الدولار الذي يعادل جنيهين سودانيين.. ولكن الحال الآن تبدل وتغير.. فلو عنى النائب بحديثه تلك الفترة التي انتعش فيها الاقتصاد فهذا صحيح، ولكن الآن المواطن لا يستطيع أن يأكل وجبتين نظراً للارتفاع الجنوني في الأسعار، فقد ارتفع سعر كيلو اللحمة إلى خمسين جنيهاً وصحن الفول إلى أربعة وخمسة جنيهات، وارتفعت أسعار كل أنواع الخضروات، أما الفاكهة فمن الصعب أن تستطيع أسرة راتب عائلها أربعمائة أو خمسمائة جنيه شراء دستة مانجو التي يتراواح سعرها بين (25-60) جنيهاً، كما ارتفع سعر البرتقال، وحتى الموز الذي كان سعر الكيلو منه جنيهاً أو جنيهاً ونصف الجنيه الآن أصبح سعر الكيلو أربعة جنيهات.. أما القمصان والملابس التي تمتلئ بها أرفف الدواليب فأقل قميص سعره (50) جنيهاً، والبناطلين ما بين (80 إلى 120) جنيهاً.. أما التعليم والمستشفيات فهذه لها حديث ثانٍ.. على مسؤولينا أن يدخلوا الأسواق ليعرفوا أسعار القمصان، في شارع الجمهورية والسوق العربي وسوق (أم درفسوا)، ويعرفوا هل الدواليب من الممكن أن تمتلئ أم أن المواطن ما زال يحتفظ بالقميصين اللذين كان يمتلكهما؟! رأيت شاباً في أواخر الأربعينيات في إحدى المركبات العامة يجيد الإنجليزية بطلاقة، يتحدث مع طرف آخر بدولة أخرى، كان يرتدي قميصاً (مقدود) من الخلف بصورة واضحة.. سألت نفسي: هل لهذا الشاب قميص ثانٍ؟!