د. محمد علي حسين شرف الدين بعد أن مضى أكثر من نصف قرن من الزمان، منذ أن نالت بلادنا الحبيبة استقلالها المجيد من براثن المستعمر البغيض، وبعد أن مضى جل الذين كانوا شهوداً في ميلاد ذلك الحدث المثير للجدل، ولم يبقَ منهم على قيد الحياة الا قلة قليلة من الشيوخ والحبوبات.. فهل أستطيع القول إن صفحة تاريخ الاستقلال المجيد قد كادت تنطوي بنهاية هؤلاء النفر القليل الذين يعدون في كل قرية أو حلة بأصابع اليد، وفي كل يوم أو ليلة ظلت يد المنون تحصد حظها منهم، وعما قريب ستنطوي صفحتهم المجيدة إلى الأبد، وهي سنة لا مهرب ولا مناص منها (إنا لله وإنا إليه راجعون). لقد أصبحت قصص الاستعمار والاستقلال تراثاً تراجيدياً وبضاعة ثقافية قديمة وموضة تقليدية يحكيها القدماء كما تحكي الحبوبات لأحفادهم قصصاً خرافية ساذجة وبريئة كقصة الغول وفاطمة السمحة وحسن البطل، وغيرها من حكاوي الحبوبات التي تعودنا الاستماع إليها ونحن أطفال في الليالي المقمرة بمختلف لغات ولهجات أهل السودان الطيبين. وهي أقاصيص وأحاجي يمكن أن تقبلها العقول وتستسيغها النفوس لجيل أو جيلين أو قل ثلاثة أجيال متتالية، كما أنها مفيدة في تلك الفترات وتساهم في تربية النشء في ذلك الوقت، ولكن لا يمكن أن تكون مقبولة أو معقولة ومفيدة في كل العصور بهذه الرتابة المتكررة، كما لو أنها شعيرة مجوسية مبهمة تؤدى في كل موسم بمواقيتها، خاصة لعقول النشء في عصر العولمة. وخير شاهد لهذه الحقيقة أن وقع ذكرى الاستقلال في النفوس في بداية الستينيات والسبعينيات، كان يثير المشاعر الجياشة، فيبكي من فرطها الرجال والنساء ويخرج الجميع في مواكب جليلة وطوابير طويلة متراصة إلى الساحات الوطنية للاحتفال بأعياد الاستقلال، والأناشيد الوطنية تصدح عبر مكبرات الصوت لتملأ الدنياً حبوراً وشوقاً. ولكن كما هو ملاحظ للجميع أن هذه المشاعر النبيلة والمظاهر البهية قد باتت تندثر وتنطوي صفحتها رويداً رويداً مع الأجيال الماضية التليدة. فالاستقلال كحدث تاريخي بات يحتضر في النفوس، والآن تحتفل الأمة السودانية بذكرى الاستقلال، كسابقاتها من الأعياد، وفي هذه اللحظات المفعمة بالإثارة يحضرني في مخيلتي مشهد خيالي غريب، يرتسم أمامي كلوحة تراجيدية محزنة، ألا وهو مشهد شيخ هرم كهل يرقد على فراش الموت، وهو في هذه الحالة التي يرثى لها يعمد أطفاله وأحفاده لإعداد حفلة فاخرة بمناسبة عيد ميلاده المجيد!! يا لها من إهانة ليس من بعدها إهانة.. فهؤلاء الأولاد إما أنهم بلهاء أو أنهم فلاسفة عباقرة حاولوا أن يمزجوا أفراح الماضي بأحزان الحاضر، ليخرجوا لوحة حزينة في إطار ذهبي براق. وقد قال الحكيم (لا يصلح العطار ما أفسده الدهر)!! لكي نفهم معنى الاستقلال بمفهومه الصحيح، لا بد من اصطحاب كافة الوقائع الظرفية الموضوعية التي سبقت وصاحبت وهيأت لذلك الحدث، ومن أبرزها الكشوفات الجغرافية التي تم فيها اكتشاف كل أبعاد الكرة الأرضية، ثم الاختراعات العلمية الحديثة التي نتجت عنها الثورة الصناعية وتوالدت منها الفلسفات والأفكار الاجتماعية والنظريات الاقتصادية، والمصادمات التي حدثت ما بين القدرات الإنتاجية والإمكانات التسويقية، ونظريات الصراع من أجل البقاء التي سادت بين الأمم، وغيرها من التداعيات الظرفية المعقدة جداَ ولا يسع المجال لذكرها بالتفصيل المطلوب. كل هذه الأسباب تولد منها حدث مثير جدير بالوقوف عنده وإضفاء المزيد من الأضواء عليه لمعرفة حقيقته وكنهه، ألا وهو حدث الاستعمار، فالاستعمار ظاهرة حتمتها الظروف الموضوعية في ذلك الوقت بالتحديد شكلاً وموضوعاً، وكان منوط به مهمات كبيرة وقضايا مصيرية وخطيرة جداً لتحديد مصير البشرية في هذه الأرض ولرسم خارطتها المستقبلية. وقد تمثلت تلك المهمات في أن الاستعمار قام بإعادة صياغة الخريطة الجيوبوليتيكية لكل الكون، وقام بدمج الشعوب والقبائل القديمة والأوطان التقليدية المتمثلة في السلطنات والممالك، وضمها ببعضها البعض في معسكرات كبيرة، وصنع من تلك السبائك أمماً جديدة وشعوباً حديثة ودولاً ما كانت موجودة في الماضي التليد في هذا الكون. فقد قام بتغيير وجه الحياة تغييراً جذرياً وربط كل شعوب العالم بفلسفة الحياة المدنية الحديثة التي قوامها معاني الحرية والديمقراطية وغيرها من المعاني الجديدة التي بمقام العقائد القديمة، وقام بربط تلك الشعوب بالاقتصاد الصناعي الرأسمالي وجعل هذه الشعوب المصطنعة تحترم وحدتها وسيادتها للعيش في تلك المعسكرات التي صنعها لهم، باعتبار أنها أوطان جديدة يمكن قيادتها وإدارتها إدارة ذاتية . هذه التحولات النوعية الكبرى التي ربطت كل شعوب الأرض في عصبة واحدة واتحاد واحد، تشكلت منها علاقات تكافلية بين الشعوب والأمم، وهذه العلاقات ذات المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضعت شعوب الأرض في كفتين اثنتين، وهما كفة الدول ذات المتغيرات المستقلة وكفة الدول ذات المتغيرات التابعة. وهاتان الكفتان تمثلتا بمسميات كثيرة منها الدول المتقدمة والدول النامية، ومنها دول الشمال ودول الجنوب ومنها الدول الصناعية الغنية والدول الزراعية الفقيرة وغيرها من المسميات. بهذا انتهى دور الاستعمار بعد أن أرسى قواعد التبعية، ووضع البوصلة لتحديد اتجاهات الحضارة ومؤشراتها. ولعلكم تذكرون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت من أوائل الدول التي نالت استقلالها السياسي منذ أكثر من قرنين، ولكن هذا الاستقلال في وقته كان مجرد تسمية رمزية وعبارة شكلية لتدشين المعنى الحقيقي للاستقلال، وكان الاستقلال الحقيقي المقصود هو استقلالها في متغيراتها السياسية والاقتصادية وتحرير إرادتها من ربقة التبعية. ولتحقيق ذلك الهدف المنشود بذل الأمريكيون جهوداً مضنية جبارة لتحقيق الوحدة الوطنية وتطوير البنية الاقتصادية، وتحويل الحياة إلى حياة مدنية قوامها الديمقراطية، فتمكنت في وقت وجيز جداً من تحقيق وحدتها الوطنية واللحاق بركب الدول المتقدمة، وأصبحت لها سياسات مستقلة تتبعها سياسات ومتغيرات نابعة من شعوب أخرى، حتى تمكنت اليوم أن تكون في صدارة الدول المستقلة. وهناك شعوب أخرى كاليابان والصين وماليزيا وغيرها من الشعوب، ظلت وما زالت تشق دربها لتحقيق الاستقلال الذاتي ضمن سياسات وخطط مستقبلية صارمة. من خلال هذا التوضيح الموجز نخلص إلى أن هناك نوعين من الاستقلال: الاستقلال الرمزي الشكلي الذي يتمثل في جلاء المستعمر من المستعمرات وتولي الوطنيين مقاليد السلطة في البلاد ورفع راية وطنية بدلاً من الرايات الاستعمارية.. والاستقلال الحقيقي الذي يتمثل في جهود أبناء الوطن لتحقيق الوحدة الوطنية وتخليص الإرادة والسيادة الوطنيتين من ربقة التبعيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعبئة جهود أبناء الوطن في البناء والإنتاج والمحبة والسلام المستدام، ضمن خطط وطنية واضحة السحنات والمعالم. وفي معرض هذه المقاييس والموازين والمعايير التي أحسبها موضوعية ومنطقية، ينبغي أن نضع استقلال السودان في الميزان للتقييم والتقويم.. ماذا حققت دولة السودان من قضايا الاستقلال الحقيقي، بل ماذا حقق الاستقلال السوداني من قضايا السودان؟! بعد نصف قرن من الاستقلال الاسمي انشطرت البلاد إلى شطرين منفصلين متخاصمين، واندلعت نيران الحروب هنا وهناك تأكل الأخضر واليابس، وظل السودان.. أرض النيلين التي هي حسب تقديرات الخبراء الاقتصاديين (سلة الغذاء) التي تنقذ الكون من المجاعات والكوارث.. أصبحت الدولة تنتظر المنح والهبات من الشعوب الأخرى الأقل منها موارد، والسودان اليوم في مؤخرة الدول النامية بكل المقاييس، ومن لا يملك قوته لا يملك إرادته. فلتكن هذه الذكرى وقفة جريئة للمساءلة والمحاسبة، فلنحاسب أنفسنا ونسأل أين نحن وأين الشعوب، كيف كنا وكيف أصبحنا.. فأحياناً يمكن أن تكون ذكرى الاستقلال مجالاً للمراجعات ومكاناً لإعادة النظر في كثير من المجريات.