صحيح أن ثورة التعليم جاءت بالمعاهد والجامعات التي تستوعب معظم أو كل الراغبين في التعليم فوق الثانوي.. وصحيح أن عدداً مقدراً الآن من الشباب يحمل الشهادات العليا الموقعة والمعترف بها في مختلف المجالات العلمية والأدبية.. ولكن الصحيح أيضاً أن نسبة عُظمى من (مخرجات) ثورة التعليم العالي عاطلة عن العمل ومتبطلة عن أداء دور يعود عليها وعلى الوطن بالفائدة والتنمية والإعمار. شبابنا يموت ببطء وهو يرى أعماره تُسرق منه في وضح النهار، كلما استيقظ واكتشف أن أحلامه المشروعة مرجأة حتى إشعار آخر، وأن أمانيه أشبه بالمستحيل في بلد أسهل شيء فيه أن تحصل على شهادة علمية وأصعب شيء فيه أن تجد عملاً ووظيفة!! (البطالة) هي في اعتقادنا - أم المشاكل السودانية، ومن يبحث عن أسباب جميع أوجه التفكك الأسري والاجتماعي والتحلل القيمي والأخلاقي، وانتشار الجرائم والهزائم سيجد أن منبتها ودافعها هو ظاهرة (العطالة) حيث الإحصاءات الرقمية تؤكد بجلاء في كل يوم أن هناك خللاً ما في المنظومة الاجتماعية السودانية بدأ يفرض واقعاً جديداً ومختلفاً من ملامحه البائنة تفشي (العنوسة) و(العزوبية) و(الطلاق) وتنامي (التسول) و(التشرد) و(الفهلوة) وإلى ما غير ذلك من سلوكيات لا يمكن أن تتزايد إلا في ظل مقدمات قوية مثل (البطالة) التي هي بيئة خصبة لتمدد شبح الفراغ وتهويماته السالبة التي تجعل الشخص يشعر بالدونية والعجز وعدم القدرة على الحركة والتواصل! (الحكومة) مطالبة وملزمة بأن تنظر بعين الجدية والاعتبار إلى الشباب (المتعطل) لإيجاد الحلول والمعالجات الواقعية التي توفر لهم فرص العمل وتؤمن لهم سبل العيش الكريم الذي يجعلهم يعتمدون على أنفسهم ولا يصبحون عالة على أسرهم ومجتمعهم.. وبعيداً عن مشروعات الشباب التي كثيراً ما ترتدي الجلباب السياسي وتفتعل الشعارات الكبيرة دون أن يكون هناك أثر حقيقي وإيجابي على واقع الشباب من الضروري أن تسعى الحكومة لوضع خطة إستراتيجية قومية لاستيعاب كل (المتعطلين) من العمل ليس في القطاع الحكومي فحسب بل ضمن القطاع الخاص أيضاً الذي يقع عليه جزء مهم في هذا المشروع الوطني، ويمكن الاستفادة في هذا السياق من تجارب الدول الأخرى التي عانت من مشكلة (العطالة) ولكنها نجحت في وضع الحلول التي حدت كثيراً من تفاقم هذه المشكلة. إن البحث عن وظيفة أصبح في حد ذاته مشكلة أكبر من إيجاد الوظيفة نفسها.. فقد حفيت أقدام الشباب في رحلة البحث هذه غير مضمونة النتائج.. وحركة البحث اليومي استنزفت أموالهم المُستلفة وجهودهم وطاقاتهم.. لهذا فهم منهكون ومتعبون والمحظوظ منهم حين يجد الوظيفة سيكون عبارة عن جُثة هامدة لا يُرجى منها عملاً ولا عطاء، ونعتقد أن الوقت قد حان لأن تفكر (الحكومة) في وضع آلية واقعية لعملية الإعلان عن الوظائف والكيفية التي يتم بها الترشيح والاختيار حيث الشكوى في هذا الصدد ما زالت مستمرة وحيث أن القيل والقال ما زال أيضاً يقتل طموح هؤلاء الشباب وثقتهم في عدم ازدواجية المعيار، وانتهاء زمن (الواسطة) و(الخيار والفقوس)!!...