كم يؤرق البلاء والحزن فينا جفوناً ويريق من عيوننا دموعاً.. حين نسْتلُّ ذكرى أُغمِدَتْ بتجارب مريرة.. يضيق الصدر ولا ينطلق اللسان.. الحزن سواد يرخي سدوله على القلب، كما يغشى الليل الدنيا كل مساء.. حينها يتوقف قلبك عن النبض وأنت أحوج لتلك الدقات القلائل لتقاوم انحدار الدموع.. الحزن إحساس قاتل يزعجك من الماضي، ويخوفك من المستقبل ويذهب عليك يومك.. البلاء والحزن ينقبض له القلب، ويعبس له الوجه وتنطفئ منه الروح، ويتلاشى معه الأمل.. ولعل أسوأ ما في الحزن أنه يسرُّ الحاسد، ويغيظ الصديق ويُشمّت بك العدو. يوماً، بدا صوت صديقي جريحاً بمشاعر قلق متنامٍ.. كانت في رأسه الأفكار والهواجس والخواطر دوامات ورياحاً ومطراً.. مشكلة اعترضت سبيله؛ وما أكثر المشاكل التي تعترض صفو حياتنا.. حالة صديقي النفسية جعلتني أستمع له حتى النهاية؛ رغم أن التفاصيل الدقيقة أحيانا أثقال حديد تشد إلى الأرض.. إعطاء الهموم فسحة لتخرج مهم جداً، فالتعبير عن الهموم يجعل صاحبها يتخفف من الضغوط النفسية التي تسببت فيها تلك الهموم. لكن ما هي السعادة النقيض المقابل الحزن؟ يقول الفارابي: "السعادة هي غاية مايتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحو على أنها كمال أقصى".. ويلاحظ أرسطو من جهته أن "عامة الناس وحكماءهم يتفقون على جعل السعادة الهدف الأسمى المنشود، لكن الآراء تختلف حالما يتعلق الأمر بتحديد طبيعة السعادة".. تتحقق السعادة عندما نفهم هذه الدنيا فهماً صحيحاً.. فالدنيا لا تخرج عن كونها سواد وبياض، مثلما هي قصور وكهوف، وظل وحرور، وغنى وفقر، وقوة وضعف.. لكن، ألا نرى أن السحاب الأسود ينقشع، والليل البهيم ينجلي، والعاصفة تهدأ؟.. فالشدائد إلى رخاء والعيش إلى صفاء ونعماء.. هذه هي الدنيا.. لكن من فضل الله علينا أن السعيد ليس ذلك الذي تُسعده دنياه، وإنما السعيد الذي ينجو من النار.. فالله منّ على قلوبنا بمعرفة أنه الله ذو الآلاء والقدس. ظللت أتعجب بل أتأمل في ذهابي وإيابي من العمل كل يوم حينا من الدهر؛ ذلك الكوخ (العشة) المكون من غرفتين قوامهما مخلفات مواد البناء.. صاحب الكوخ كان كما يبدو يعمل حارسا لعمارة تحت التشييد.. هذا الرجل له قدرة فائقة على تحدي الفقر وهو أصعب أنواع البلاء.. في العيد كان لذلك البيت بهاءً ورونقاً بديعاً.. عندما عدت ليلاً أو في الساعات الأولى من أول أيام العيد كانت العشة محاطة بالزينة المتلألئة الأخاذة.. الرجل صاحب (العشة) الذي يفيض تفاؤلاً وغبطة وحباً للحياة أحاط عشته بأشكال وألوان بهية من الزروع، وروداً وأزهاراً.. هذا الرجل البسيط جعل من قصيدة إيليا أبو ماضي (الغبطة فكرة) واقعاً معاشاً: أيّها الشاكي الليالي إنَّما الغبطةُ فِكْرَهْ ربَّما اسْتوطَنَتِ الكوخَ وما في الكوخِ كِسْرَهْ وخَلَتْ منها القصورُ العالياتُ المُشْمَخِرَّهْ تلمسُ الغصنَ المُعَرَّى فإذا في الغصنِ نُضْرَهْ إن فلسفة السعادة الحقة تكون بمعية ربانية.. بين الإنسان وربه إحساس بالراحة والطمأنينة والأنس بالله ومع الله، والرضا بقضاء الله وقدره، والصبر على السراء والضراء، وحب الخير للناس؛ بتمني السعادة لهم كما نتمناها لأنفسنا.. إذن فلسفة السعادة لا تقوم على سعادة الفرد فحسب؛ ولكن تقوم على سعادة الآخرين.. لنذكر دائماً أنه من أراد أن يقطف العسل لا يجب عليه أن يحطم خلية النحل.. قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" • آخر الكلام: التدبر في القرآن الكريم وتلاوته لاشك أمر يدلنا على الحقائق التي لا غنى عنها.. ومن فضل الله علينا أن نبتلى فنصبر، ونُرزق فنشكر، فكلا الأمرين حينئذ خير وفلاح، وفوز ونجاح، كما أخرجه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له).