حضور كثيف من فئات المجتمع كافة، يمثلون كل العرقيات المنضوية تحت مظلة بلادنا، بينهم الأمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي.. ظلوا يترددون على مباني جامعة الأحفاد طيلة ثلاثة أيام متتالية.. ضاقت بهم القاعة على وسعها، وظلوا حريصين على متابعة جميع المجريات التي كانت تعرض أمام ناظريهم، وهناك تم تنظيم ورشة عمل، تحت مسمى( ورشة عمل بناء الدستور) التي انطلقت يوم الأحد الماضي، واستمرت حتى الثلاثاء، بمشاركة جامعة مدني الأهلية، والقضارف، وكردفان وجامعة الأحفاد للبنات، بتنظيم الأخيرة، وتنسيقها مع الأخريات، وبمشاركة خارجية شملت كلاً من جنوب أفريقيا وألمانيا وماليزيا، وداخلية شملت ولايات السودان المختلفة، وقد تنقلت الأوراق التي تم تقديمها في الورشة طيلة الأيام الثلاثة، بالمشاركين، في تطواف أنيق عبر مراحل مختلفة، منذ أن شبت بلادنا عن الطوق ونالت استقلالها. أولى الأوراق أعدها البروفيسور (راينر قروت) عن (نظم الحكم، تجارب عالمية لتحقيق الاستقرار، الديمقراطية والسلام) عنوانا لها، قدمها بالإنجليزية، وأعقب ذلك بتلخيص لها باللغة العربية، فيما سلطت الورقة الثانية الضوء على: التجارب السودانية لنظم الحكم، الإشكاليات، السيناريوهات المختلفة لتحقيق الديمقراطية والدستورية، والآليات التي يمكن عن طريقها تحقيق ذلك. وفي اليوم الثاني الذي تم تخصيصه للحديث عن محوري النظام الفيدرالي والحكم الفيدرالي، تناولت الورقة الأولى عدداً من التجارب العالمية لنظام الحكم الفيدرالي لتحقيق الوحدة الطوعية وإدارة التنوع والاستقرار، قدمها بروفيسور (يوناتان فيشا) من جنوب أفريقيا باللغة الإنجليزية، مع تلخيص لها بالعربية، فيما نقبت الورقة الثانية في التجارب السودانية، في المشاكل والتحديات والحلول الأنسب للتجارب الوطنية في الحكم الفيدرالي. مجموعات النقاش المنضوية داخل المجموعات الأربع، التي تم تقسيم المشاركين فيها ليخرجوا بتوصيات ابتدرتها المجموعة الأولى بتساؤلات رأت أنه لابد من الإجابة عليها لتتضح الرؤيا لوضع دستور جديد، وأبرز تلك التساؤلات ما هي الأسباب التي تحدث فجوة بين الدستور والقوانين والتطبيق؟ ماذا تعني الدستورية؟ وكيف يمكن ضمان تطبيق الدستورية؟ وفي أي نظام حكم يمكن احترام وصيانة حقوق الإنسان بكل أنواعها؟ فيما حددت المجموعة الثانية تساؤلات أخرى شملت: هل يناسب السودان النظام الرئاسي وعلى أي شاكلة (أمريكي أم جنوب أفريقي)؟ أم أنه يحتاج لسمات أخرى، غير تلك الموضوعة في أي من النظامين السابقين؟ ونوهت إلى أنه يرجي ذكر الصلاحيات الممنوحة للرئيس، ومدى سلطاته؟ أما المجموعة الثالثة فقد أكدت أنه لا بد من تحديد ملامح النظام المختلط ولماذا؟ أي نوع مختلط على الطريقة الألمانية، أم التركية، أم الفرنسية ولماذا؟ وهل يناسبنا المختلط الذي كان سائداً في عهد الديمقراطية كما هو، أم بتعديل على أسس جهوية؟، ومضت المجموعة الرابعة لتضع تساؤلين، انتصبا يبحثان عن تداول تمهيداً للخروج بإيجابيات تنعكس في الدستور الجديد، مفادهما: كيف يمكن لنا خلق نظام حكم يحقق التنمية والديمقراطية والسلام والأمن، ويحمي حقوق الإنسان؟ مع إيلاء أهمية قصوى لقيم العدالة وإدارة التنوع والحماية من الفساد، بجانب تساؤلها عن ماهية الصلاحيات الممنوحة لكل مستوى؟ في إفادته التي جاءت تحمل تلخيصاً للأيام الثلاثة التي كان حريصاً على حضورها، قال الإمام الصادق المهدي: (إن بلادنا الآن تمضي في مفترق طريقين، إما أن تكون أو لا تكون)، ومضي يرسم بريشة كلماته لوحة للدستور القادم، وهو يضع احتمالين كذلك لا يحتملان خياراً ثالثاً يتمخضان عن نتيجة الاختيار لأحد الطريقين السابقين، إما استشراف مستقبل ناجح، أو الوقوع في المحظور، ليطالب بإلغاء دستور نيفاشا، مقترحاً تبديله لآلية دستورية انتقالية يتم الاتفاق علي معالمها وفترتها مع ضرورة التوصل لحل سياسي شامل وعادل لقضية دارفور، دون التقيّد بالسقوف التي وضعتها اتفاقيات نيفاشا، أبوجا، والدوحة، زاجاً بمقترح آخر ملخصه ضرورة قيام ملتقى جامع يضم واضعي مبادرات الدستور التي تجاوزت عشراً. ومضى المهدي لافتاً لعيوب اعترت الدساتير السابقة، أهمها كفلها حريات عديدة نظرياً، خلت منها الممارسة العملية؛ بسبب القيود التي تفرضها الأجهزة الأمنية والإعلامية والاقتصادية، وساق جزئيات من دستور العام 2004م استشهد بها في إفادته، وخلص المهدي إلى عشرين توصية، رأي أنه لا بد من الاستهداء بها للبحث عن دستور ينأى بالبلاد وإثنياتها من هوة الخلافات، ويضعها في رحاب السلام والاستقرار والطمأنينة بتلافي نقاط أبرزها البعد عن التعميم المخل؛ مما أدى لإجهاض مجهودات النظم الديمقراطية التي لم تتجاوز فتراتها العشر سنوات في مقابل ستة وأربعين عاماً من فترات الطغيان، (حسب قوله)، وزاد أنه بالرغم من نص اتفاقية نيفاشا والدستور على بيان جيد لحقوق الإنسان، إلا أنه أفرغ تماماً بإبقاء كافة قوانين القهر لتستمر، إلى أن يتم استبدالها، والأمر مربوط برغبة الحزب الحاكم في ذلك، وهكذا بقيت إلي يومنا هذا دون أن تطالها يد التغيير، وزاد أن دستور العام 1998م نص على الفيدرالية لكنها جاءت جوفاء؛ بسبب العجز المالي وتسلط الحزب الحاكم المسلح بالأغلبية التشريعية، وهكذا بقي العمل بها مستمراً. وانتقل المهدي بعد ذلك ليثير الحديث عن نقاط لاهبة بينها أن الديمقراطية السياسية لا تعني بالضرورة تحقيق الديمقراطية الإجتماعية؛ لعدم تمكنها من إيجاد التوازن والاستقرار والتنمية، واستدل هنا بشواهد عديدة تكررت في فصول مختلفة من تاريخنا السياسي، ولم ينس دولة جنوب السودان وهو يسدي جملة نصائح استمدها من كنانة خبرته من واقع التجارب التي عايشها، مفادها أنه لا بد من خلق علاقة خاصة مع دولة جنوب السودان يتم تضمينها في دستور البلاد لتصبح مرتكزاً تقوم عليه الكونفدرالية مستقبلاً، لافتاً لعوامل جيوسياسية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية . وفيما تناولت ورقة العمل الأولى التي تم تقديمها في الورشة والتي أعدها البروفيسور الألماني (راينر قروت)، تناولت تجارب عالمية لنظم الحكم سعياً لتحقيق الاستقرار، والديمقرايطية، والسلام، لخصت الورقة الثانية التي أعدها الأستاذ الطاهر بدوي التجارب الوطنية لنظم الحكم، مستصحبة الإشكاليات والسيناريوهات المختلفة لتحقيق الديمقراطية والدستورية، والآليات التي يمكن أن تحقق ذلك، النقاش الذي تم تخصيص مساحات واسعة له بين الأوراق التي تم تقديمها، والذي أسدلت على نهاياته الورشة، جاء واضحاً وصريحاً لامس بعض السلبيات التي مرت بها تجارب الحكم في بلادنا، لكنه اتخذ منها مغزى لينوه المشاركون لضرورة وضع معايير محددة حتى لا تتراكم الأحقاد في نفوس أبناء الوطن الواحد، بل إنها كانت أعمق من ذلك لتقترح عدداً من النقاط التي يتم تضمينها في الدستور القادم، بحيث تصبح مؤشرات تعمل على مسح كافة أشكال التمييز والغبن المتوارث، الذي أدى لهوة الخلافات والانقسامات واشتعال الأزمات بين كل منعرج والآخر تمر به البلاد لتكون الحصيلة على أرض الواقع تشرذماً وأسىً وعذاباً يتمدد ليطال الأجيال القادمة، وأبرز ما صيغ في ذلك الإطار التوصيات العشرين التي وضعها الإمام الصادق المهدي على طاولة الورشة، راجياً أن يقف عندها الجميع ويولوها كثير اهتمام. الورشة جاءت بحق تحمل هم الوطن وقد عكس موقف وقع بشكل عفوي على ذلك، إذ إن أحد الحضور طلب فرصة للحديث عقب حديث الإمام الصادق المهدي، وما إن أعطي الفرصة حتى ألقى بتساؤل لخصه في أنه لابد، مبتدأ، أن نعرف من نحن؟ وما أن أعطيت الفرصة للمنصة التي كانت تعتليها الأستاذة عائشة الكارب للتعقيب عليه، حتى رددت أنه يكفي أننا سودانيون، وهنا لم يتمالك الحضور نفسه فانسابت شلالات من التصفيق الحاد، وهكذا أكدوا بعفوية تامة على القومية التي يحلمون بتضمينها في دستور البلاد القادم، فهل يحدث ذلك أم تبقى تلك الورشة وغيرها من مناشط صبت في ذات الإطار محض أعباء تنظيم وحضور أعداد كبيرة دون أن تؤدي مبتغاها على أرض الواقع لتتنزل عليه برداً وسلاماً؟