مبروووك للسودان، فقد حظي أخيرا بالشهادة (المضروبة)، وأصبح من المرضي عنهم في نظر صندوق النقد الدولي ! الصندوق الذي طالما مارسنا عليه التمنع، والعناد، وركوب الراس، والذي (قدلنا) في سني الشباب نهتف بسقوطه .. أعطانا أمس الشهادة المبكية المضحكة، بعد أن وصفت بعثته الإجراءات التي اتخذتها حكومة السودان فيما يتعلق بالموازنة العامة للدولة ب "الشجاعة". أي شجاعة تلك التي يتحدث عنها الصندوق، وهو يرى أن القرارات والإجراءات الجارية أحالت الشعب كله الآن إلى فقراء لا يجدون قوت يومهم، وأي شجاعة يتكلم عنها صندوق النقد الدولي الذي تتقاذفه السياسة، شاء أم أبى، ليدفع الأنظمة لمواجهة شعوبها برفع كل دعم عنهم ؟! أي شجاعة تلك التي لم تجد سوى جيوب الفقراء سبيلا لحل ضوائق اقتصادية سببها الحروب المستشرية وقرارات الهوى في التعامل مع البترول الشحيح أصلا، وبذل المال بسخاء في الترضيات والاستوزار وتكبير الحاشية الطفيلية التابعة لكل من تأتي به الترضيات للسلطة ! الشجاعة التي يقصدها الصندوق، هي قبول الحكومة بأن تضع نفسها في محنة سياسية واقتصادية تنكأ كل الجراحات القديمة، وتضيف لها جراحات جديدة، وتجعل الشارع في حالة هيجان أو توثب لمواجهات مع السلطة لا أحد يعرف إلى أين تقود ! هذا الصندوق، بالمناسبة، كان سعيدا أيام تحرير الأسعار الذي تبناه عبد الرحيم حمدي وبعض أركاناته في المالية قبل قرابة العقدين، وهو تحرير كان له من الآثار المدمرة على المجتمع ما لا يخطر على بال، لكننا لا نريد النبش في الماضي، بل نريد القول بأن اليوم هو نتاج الأمس، وأن الكثير من التداعيات اللاحقة لم تكن بمستبعدة من الصندوق .. إن لم تكن جزءا من طموحاته وخططه الخفية تجاه السودان ! في رأيي أن الصندوق ينصب فخا كبيرا للنظام، ويسعى لجعل الحكومة في مواقف شديدة التأزم، فإما أن تلتزم بحزمة الوصايا القادمة منه، فينشأ اقتصاد خال من آفات الأرقام لكنه غني بآفات الظلم والإفقار للناس، وإما أن تحاول الحكومة ابتكار وسائلها الخاصة، والبعد عن المجال المغنطيسي المكهرب للصندوق، فيرفع يده عنها، ويتنصل عن كل دعم مطلوب منه وفقا لأدواره المنصوص عليها في منظمة الأممالمتحدة . الحكومة انحازت لرؤية صندوق النقد الدولي، ولذلك هو مبسوووط بأربعة وعشرين قيراطا، لأنها ستعمل بتوجيهاته، لكنها في النهاية لن تجني من دعمه المنتظر سوى الحصرم ! صندوق النقد الدولي، بالمناسبة، يدير أعماله من واشنطن، ولست صاحب عداوة مع أمريكا، ولا أميل لتحميل الأمريكان أوزارنا كما يفعل بعض المتنفذين عندنا، لكن أمريكا هي الداعم الأكبر للصندوق، وتساهم بقرابة خمس المبلغ الإجمالي لرأسمال الصندوق، في حين تتقاسم كل دول العالم بقية المبلغ حسب مقدراتها، كما أن أمريكا تضع نظام الخرطوم ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ولن تنسى مواقف النظام المتحدية لها، والمستخفة بها، كما لن تنسى استضافته يوما لكل المغضوب عليهم من أمريكا وأصدقائها . الخلاصة : أمريكا عينها على النظام، والصندوق تحت إبطها .. فلا يغرن النظام إشادة الصندوق، لأنها قد تكون حقنة مخدرة .. قبل أن تعمل فيه مبضعها تقطيعا وتجريحا !