جاء نظام الإنقاذ مُبشِّراً بنظام حكم إسلامي يهدف إلى سيادة الفكر الإسلامي واعتماده أسلوب حياة بديلاً للفكر الغربي القائم على العلمانية والرأسمالية.. و(الإنقاذ) يفترض فيها أنها مولود شرعي نهل من معين الاطار الفكري السياسي للحركات الإسلامية حول العالم، والذي تأسس على أدبيات وتجارب تراكمية أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية، وليس الدين مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة دونما بعدٌ معنوي.. قبل (الانقاذ) ومع تجاوز فترات الحكم العسكري حكمت السودان البيوتات الدينية مثل الأنصار والختمية.. في تلك الفترات احتكرت تلك البيوتات السلطة للدين، واليوم جاءت (الإنقاذ) لكسر هذا الاحتكار.. لكن على ما يبدو أن (الإنقاذ) تحولت إلى (مارد) يؤسس أو أسس بالفعل لاحتكار جديد مقابل لعقيدة البلاد الرئيسة، وثقافتها، والتصدر للنطق باسمها.. سترتكب (الإنقاذ) - أو ربما ارتكبت - خطيئة إستراتيجية؛ إن هي أعادت إنتاج ما ناضلت طويلاً ضده في سعيها إلى إعادة تقويم العلاقة بين السياسة والإسلام بالنظر للتجارب الطائفية.. هذه الرؤية عنت لى وأنا أطالع جانباً مهماً لكتاب جديد للمفكر المغربي المعاصر عبد الإله بلقزيز الذي صدر الأسبوع الماضي بعنوان (الإسلام والسياسة.. دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي).. قام المؤلف فيه ببراعة فكرية نادرة بتفكيك جدلية الدين والسياسة في الإسلام المعاصر.. قديماً حذر الكثيرون من أن اعتقال السياسة ضمن اطار الفقه يؤدي إلى تأخر تطورها إلى كونها علماً وفكراً منفصلاً، حيث كان الفقه السياسي يحاسب بموازين الحلال القطعي والحرام القطعي بدون أي مساحة اجتهادية.. اليوم (الإنقاذ) والتي أقصد بها كل النظام بمكوناته الحركية والتنظيمية تنزلق نحو صناعة استقطاب اجتماعي جديد قد يعصف بالاستقرار الاجتماع النسبي الموجود، بسبب ذلك العمل السياسي والتنظيمي غير المرشد وطغيان السياسة على التربية الروحية وصولا إلى تنشئة اجتماعية معافاة.. اليوم قوى العنف والتكفير تنشط، وتنافس العمل الإسلامي الحركي العاقل على احتكار ما أسماه المؤلف (الرأسمال الديني) وعلى ادعاء تمثيل الإسلام.. ألا تتفقون معي أن وجهة ممارسة السياسة الرسمية في البلاد تنحو إلى مصادرة المجال السياسي كمجال عمومي، وتنمية وتغذية شروط احتكار السلطة، ومنعها من أن تصير إلى تداول عام ديمقراطي بين مكونات الفضاء السياسي والاجتماعي.. حين يستعصم البعض باحتكار النشاط السياسي، فلا نجد مساحة لممارسة العمل السياسي الحر حيث ينكفئ تيار من المجتمع بحثاً عن طريقة مناسبة (ربما رفع السلاح!) للتعبير عن الذات ولتحقيق التوازن النفسي والمادي. بلقزيز ينتقد في الإسلاميين ما يسميه الجموح المتزايد إلى الدفاع عن ممارستين شاذتين: (ممارسة السياسة في الدين)، بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، و(ممارسة الدين في السياسة)، من خلال بناء موقع قوي فيها باسم المقدس.. هل ينزع الإسلاميون سواء في السودان أو غيره إلى استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة، وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، حيث أنهم يحاولون رد الاتهام عنهم بأنهم مجرد (تجار) سياسيين بالدين بقولهم (الإسلام دين ودولة)، أي عقيدة، وسياسة، واجتماع، ومع أن أكثرهم لا يكلف النفس عناء الاحتفال الكثير بالمسألة نظرياً؟.. قد أتفق مع المفكر بلقزيز أن الممارسة الحالية فيها كثير من المخاطر بيد أن ذلك ينطوي على قدر بالغ من الخطورة على وظيفة الإسلام ذاتها، بحيث لا يعود الإسلام، مثلما هو في صميم منطلقاته، فكرة توحيد للناس في أمة، بل يتحول إلى سبب للفرقة والنزاع، وإلى عامل تفريق وتمايز داخل النسيج الاجتماعي الموحد. وعلى ذلك فإن إسلاميي اليوم لا يفعلون أكثر من استئناف ما فعله أسلافهم في عهد (الفتنة الكبرى)، أي الخروج بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي. • آخر الكلام: لو أن (الاتقاذ) تجنبت محاذير بلقزيز، لما هرولت اليوم تبغي التحاور مع ياسر عرمان المتمنع ومالك عقار المتجهم وعبد العزيز الحلو (الما حلو).. ربما لم تكن هناك قضية دارفور أو شرق السودان.. صحيح أن عوامل التدخل الخارجي وتحكم الاستراتيجيات الدولية، ماثلة ولها مفاعليها في تفكيك النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي بالبلاد، إلا أن حاضر الوطن المأزوم لما كان بهذه الكيفية المحبطة. والله أعلم.