ياسر محجوب الحسين (صحفي سوداني) فيما تمر الذكرى ال(23) لنظام (الإنقاذ) في السودان برئاسة الرئيس عمر البشير، بدا النظام الذي جاء وفق طرح إسلامي، مضطربا لأول مرة منذ أن جاء إلى الحكم في (1989م) بانقلاب عسكري.. فقد أعلنت الخرطوم عن إجراءات اقتصادية قاسية تضمنت رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء - قبل أن تتراجع عن الأخيرة - فضلا عن تحرير أسعار سلعة السكر الإستراتيجية.. عثرات سياسية واقتصادية تقف ماثلة أمام مسيرة نظام الحكم في السودان مما يدعو لمراجعة أسلوب ونهج الحكم.. جاء نظام الإنقاذ مُبشراً بنظام حكم إسلامي يهدف إلى سيادة الفكر الإسلامي واعتماده أسلوب حياة بديلا للفكر الغربي القائم على العلمانية والرأسمالية.. و(الإنقاذ) يفترض فيها أنها مولود شرعي نهل من معين الإطار الفكري السياسي للحركات الإسلامية حول العالم والذي تأسس على أدبيات وتجارب تراكمية أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية، وليس الدين مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة دونما بعدٌ معنوي.. قبل (الإنقاذ) ومع تجاوز فترات الحكم العسكري، حكمت السودان الطوائف الدينية مثل الأنصار والختمية.. في تلك الفترات احتكرت تلك الطائفتان السلطة للدين، بيد أن (الإنقاذ) جاءت لكسر هذا الاحتكار.. لكن على ما يبدو أن (الإنقاذ) تحولت إلى (مارد) يؤسس أو أسس بالفعل لاحتكار جديد للإسلام، والتصدر للنطق باسمه.. سترتكب (الإنقاذ) - أو ربما ارتكبت - خطيئة كبيرة؛ إن هي أعادت إنتاج ما ناضلت طويلا ضده في سعيها إلى إعادة تقويم العلاقة بين السياسة والإسلام بالنظر للتجارب الطائفية.. هذه الرؤية عنت لي وأنا أطالع جانباً مهماً لكتاب جديد للدكتور عبد الإله بلقزيز المفكر المغربي المعروف الذي صدر نهاية الشهر الماضي بعنوان (الإسلام والسياسة.. دور الحركات الإسلامية في صوغ المجال السياسي).. قام المؤلف فيه بتفكيك جدلية الدين والسياسة في الإسلام المعاصر.. قديماً حذر الكثيرون من أن اعتقال السياسة ضمن إطار الفقه يؤدي إلى تأخر تطورها إلى كونها علم وفكر منفصل، حيث كان الفقه السياسي يحاسب بموازين الحلال القطعي والحرام القطعي بدون أي مساحة اجتهادية.. اليوم ينزلق نظام (الإنقاذ) نحو صناعة استقطاب اجتماعي جديد قد يعصف بالاستقرار النسبي الموجود.. اليوم تنشط قوى العنف والتكفير، وتنافس العمل الإسلامي الحركي (العاقل) على احتكار ما أسماه المؤلف (الرأسمال الديني) وعلى ادعاء تمثيل الإسلام.. قد يتفق معي الكثيرون أن وجهة ممارسة السياسة الرسمية في السودان تنحو إلى مصادرة المجال السياسي كمجال عمومي، وتنمية وتغذية شروط احتكار السلطة، ومنعها من أن تصير إلى تداول عام ديمقراطي بين مكونات الفضاء السياسي والاجتماعي.. حين يستعصم البعض باحتكار النشاط السياسي، فلا نجد مساحة لممارسة العمل السياسي الحر حيث ينكفئ تيار من المجتمع بحثاً عن طريقة مناسبة (ربما رفع السلاح!) للتعبير عن الذات ولتحقيق التوازن النفسي والمادي. بلقزيز ينتقد في الإسلاميين – عموماً - ما يسميه الجموح المتزايد إلى الدفاع عن ممارستين شاذتين: (ممارسة السياسة في الدين)، بإخضاع الإسلام إلى مطالب السياسة والمصلحة والصراع، و(ممارسة الدين في السياسة)، من خلال بناء موقع قوي فيها باسم المقدس.. هل ينزع الإسلاميون سواء في السودان أو غيره إلى استثمار المقدس الديني وتوظيفه في المعارك الاجتماعية المختلفة، وخاصة في المعركة السياسية من أجل السلطة، حيث إنهم يحاولون رد الاتهام عنهم بأنهم مجرد (تجار) سياسيين بالدين بقولهم (الإسلام دين ودولة)، أي عقيدة، وسياسة، واجتماع، ومع أن أكثرهم لا يكلف النفس عناء الاحتفال الكثير بالمسألة نظرياً؟.. قد أتفق مع المفكر بلقزيز أن الممارسة الحالية فيها كثير من المخاطر بيد أن ذلك ينطوي على قدر بالغ من الخطورة على وظيفة الإسلام ذاتها، بحيث لا يعود الإسلام، مثلما هو في صميم منطلقاته، فكرة توحيد للناس في أمة، بل يتحول إلى سبب للفرقة والنزاع، وإلى عامل تفريق وتمايز داخل النسيج الاجتماعي الموحد. وعلى ذلك فإن إسلاميي اليوم لا يفعلون أكثر من استئناف ما حدث تاريخيا في عهد (الفتنة الكبرى)، أي الخروج بالمسلمين من عهد الأمة والجماعة إلى عهد الانقسام السياسي والنفسي. السودان بلد كثير القبائل ومترامي الأطراف ويحتاج لفكر سياسي متقدم وتعاطي ذكي مع هذه التركيبة القبلية والجهوية المعقدة.. ونتذكر هنا وعلى (الإنقاذيين) أن يتذكروا كذلك قول ابن خلدون في مقدمته إن: (الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وان وراء كل رأي منها هوى وعصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت). ولأجل ذلك، يرى ابن خلدون: (أن حكم مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب، إنما هو سلطان ورعية). صحيح أن هناك حكماً فيدرالياً وبعض من مؤشرات الحداثة والتحديث لكن كل ذلك يميل إلى السطحية والهشاشة في ذات الوقت، حيث تخفي تحتها جذور الدولة التقليدية المتسلطة.