وهل ما زالت بلادنا بخير؟ مصطفى أبو العزائم كل الذي يحدث الآن مربك للعقل، مزلزل للعواطف، قاصم لظهر الانتماء.. ما عاد أبناؤنا حولنا، تفرقوا وتفرقت بنا وبهم السبل، بحثوا عن دروب الهجرة فوجدوها، ورأوا مواجهة المستحيل، بينما نحنُ أقعدنا العجزُ.. و.. ما أقعدنا .. ولم نعد ندري إن كانت بلادنا هي ذاتها تلك البلاد التي تغنينا لها وأحببناها وقدمنا أرواحنا فداء لها، وهل ما زال في وقتنا متسع لترف فكري أو متعة روحية أو مساحة للتلذذ بالكلمات والتغني بها وجمالها.. أصبحنا نشك في كل شيء وأحلامنا توأد تحت أسماعنا وأبصارنا كل يوم وليلة، ولم نعد نصدق أن الآخرين سيقع منهم وطننا هذا موقع الحسن والجمال في نفوسهم، لأن الجمال مضى وغنى النفس التهمه فقر الواقع، ورحابة الكون الكبير الواسع العريض ابتلعها ضيق أفق الذين يديرون شأننا، مات الفرح وانطفأ نور الأمل وما عدنا نحتفي بإبداع ولا مبدع، ولا عاد المبدعون يحتفون بنا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تعالوا نقرأ معاً ما كتبه عنا الشاعر الكبير الراحل "نزار قباني" وهو يحتفي بالخرطوم والسودان والسودانيين.. ونحن ما عدنا أولئك الذين يتذوقون الشعر ويعتصرون كروم الإبداع ويوزعون أنخابها بينهم.. أصبح بيننا أدعياء صرفوا انتباهنا نحو الهلاك جرياً وراء ما يسد الرمق بالتضييق من خلال السياسات الاقتصادية المختلة. { بالله اقرأوا ما كتبه "نزار قباني" عن السودان والسودانيين في الزمن الجميل: اللؤلؤ الأسود هو الأغلى نصف مجدي محفور على منبر "لويس هول" و"الشابل" في الجامعة الأمريكية في بيروت، والنصف الآخر معلق على أشجار النخيل في بغداد، ومنقوش على مياه النيلين الأزرق والأبيض في الخرطوم، طبعاً هناك مدن عربية أخرى تحتفي بالشعر وتلوح له بالمناديل، ولكن بيروتوبغدادوالخرطوم تتنفس الشعر وتلبسه وتتكحل به، إن قراءتي الشعرية في السودان كانت حفلة ألعاب نارية على أرض من الرماد الساخن. في "قاعة الصداقة" بالخرطوم، كان السودانيون يجلسون كالعصافير على فروع الشجر، ويضيئون الليل بجلاليبهم البيضاء، وعيونهم التي تختزن كل طفولة الدنيا وطيبتها. هذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء خرافي، شيء لم يحدث في الحلم ولا في الأساطير، شيء يشرفني ويسعدني ويبكيني، أنا أبكي دائماً حين يتحول الشعر إلى معبد والناس إلى مصلين، أبكي دائماً حين لا يجد الناس مكاناً يجلسون فيه فيجلسون على أهداب عيوني، أبكي دائماً حين تختلط حدودي بحدود الناس فلا أكاد أعرف من منا الشاعر ومن منا المستمع، أبكي دائماً حين يصبح الناس جزءاً من أوراقي، جزءاً من صوتي، جزءاً من ثيابي، أبكي لأن مدينة عربية، مدينة واحدة على الأقل لا تزال بخير، والسودان بألف خير، لأنه يفتح للشعر ذراعيه، كما تفتح شجرة التين الكبيرة ذراعيها لأفواج العصافير الربيعية المولد. السودان ينتظر الشعر كما تنتظر الحلوة على النافذة فارس أحلامها، يأتي على صهوة جواده حاملاً لها قوارير العطر وأطواق الياسمين، ومكاتيب الغرام. السودان يجلس أمام الشعر كما تجلس الأم أمام سرير طفلها تغمر خديه بالقبلات وتطمعه حلاوة اللوز والسكر. السودان يلبس للشعر أجمل ما عنده من الثياب ويذهب للقاء الشعر كما يذهب العاشقون إلى موعد غرام. السودان بألف خير، لأنه ربط قدره بالشعر، بالكلمات الجميلة، الكلمات جنيات رائعات الفتنة، يخرجن مرة من عتمة الظنون، ومرة من عتمة الدفاتر، الكلمات طيور بحرية تخترق زرقة السماء دون تأشيرة، ودون جواز سفر، لم أكن أعرف– قبل أن أزور السودان– أي طاقة على السفر والرحيل تملك الكلمات، ولم أكن أتصور قدرتها الهائلة على الحركة والتوالد والإخصاب، لم أكن أتخيل أن كلمة تكتب بقلم الرصاص على ورقة منسية قادرة على تنوير مدينة بأكملها، على تطريزها بالأخضر والأحمر، وتغطية سمائها بالعصافير. أشعر بالزهو والكبرياء حين أرى حروفي التي نثرتها في الريح قبل عشرين عاماً تورق وتزهر على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض. هذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء لا يصدق، وهو شهادة حاسمة على نقاء عروبتكم، فالعربي يرث الشعر كما يرث لون عينيه ولون بشرته، وطول قامته، ويحمله منذ مولده ويحمله كما يحمل اسمه وبطاقته الشخصية. مفاجأة المفاجآت لي كانت الإنسان السوداني، الإنسان في السودان حادثة شعرية فريدة لا تتكرر، ظاهرة غير طبيعية، خارقة من الخوارق التي تحدث كل عشرة آلاف سنة مرة واحدة، الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي الباقي لتراثنا الشعري، هو الولد الشاطر الذي لا يزال يحتفظ دون سائر الإخوة بمصباح الشعر في غرفة نومه، كل سوداني عرفته كان شاعراً أو راوية شعر، ففي السودان إما أن تكون شاعراً أو أن تكون عاطلاً عن العمل، فالشعر في السودان هو جواز السفر الذي يسمح لك بدخول المجتمع ويمنحك الجنسية السودانية، الإنسان السوداني هو الولد الأصفى والأنقى والأطهر الذي لم يبع ثياب أبيه ومكتبته ليشتري بثمنها زجاجة خمر، أو سيارة أمريكية، هو الإنسان العربي الوحيد الذي لم يتشوه من الداخل. هأنذا مرة أخرى في السودان، أتعمد بمائه، وأتكحل بليله، وأسترجع حباً قديماً لا يزال يشتعل كقوس قزح في دورتي الدموية، عرفت في حياتي وفي رحلاتي كل أنواع اللآلئ البحرية، عرفت اللؤلؤ الأبيض، واللؤلؤ الرمادي، وعرفت اللؤلؤ الأخضر، واللؤلؤ الوردي، وعرفت الأوروبي والآسيوي، واللؤلؤ الذي يوزن بالقيراط، واللؤلؤ الذي يوزن بالقصائد والدموع، واللؤلؤ الذي يتدلى على صدور الكواكب و... و... واللؤلؤ الذي يتدلى على صدور الجميلات. بعد ثلاثين سنة من الغطس تحت سطح الماء، والغرق في بحار النساء اكتشفت أن اللؤلؤ الأسود هو الأغلى، والأحلى والأكثر إثارة، كما اكتشفت أن الذي يملك مثقالاً واحداً من اللؤلؤ السوداني، يمتلك كنوز سليمان، والحور المقصورات في الجنات، ويصبح ملك الإنس والجان. الحب السوداني ليس جديداً عليّ، فهو يشتعل كالشطة الحمراء على ضفاف فمي، ويتساقط كثمار المانغو على بوابة قلبي، ويسافر كرمح أفريقي بين عنقي وخاصرتي، هذا الحب السوداني لا أناقشه، ولا أحتج عليه، لأنه صار أكبر من احتجاجي، وأكبر مني، صار وشماً على غلاف القلب لا يغسل ولا يمسح.