احتجبت عنك - قارئي الكريم - أسابيع ثلاثة.. وعن منبر (المجهر) الأثير لديَّ.. وكذلك عن صحبة القلم وتحمُّل الأوراق لكلماتي التي ترقد عليها بغير استئذان.. احتجبت كاتباً ولم أحتجب صديقاً ورفيقاً لمن ربطني بهم حبل سري يربط بين أفئدة وقلوب.. من حين يقرأ لك ربما يدعو لك بخير.. أو يرجو أن يجد عندك خيراً أو بعضاً منه.. ومن أنا لا أعرفه، ولكني أعرف أنه قرأ لي ويرجو أن أستزيد في الكتابة.. كل أولئك كانوا معي في رحلة (العمرة) في رمضان.. رمضان.. وما أدراك ما رمضان لِجام حرير الرضا واليقين.. الإمساك عن ما يشين من فعل وقول وسلوك.. أن ينتهي الآذان بمفردة (الصلاة خير من النوم) الكلمة التي تفصح عن الفجر الصادق الذي يضع على كل فم (قفل) من التسليم والقبول والرضا.. وآذان آخر يؤكد دخول الشمس في بيت الليل وولادة وقت صلاة المغرب، فإذا كل (قفل) كان في فم تفتحه (تمرة) يعيد سكرها توازن الدم في العروق وتكتب في صحيفة اليمين أنه أدرك رمضان.. أدرك يومه الأول ووفّى الصيام بلا رفث ولا فسوق ولا جدال.. رمضان منتجع المتقين.. فيه يصدقون الله حديثاً وتلاوة وتصدقاً.. ونفقة، والرحمة جلباب لعشر منه تسربل كل عارٍ وتكسي كل كاسٍ وتمسح دمعة وترسم رضا وتشع نوراً.. الناس فيه (خفاف) كالفراشات.. ألقت من كتفها (مُخلاية) الدنيا وافترشت في جوف الليل (فَرْوة) يحلو فيها السجود طويل القنوت.. يتهادون كأنما هم ملائكة، ينثرون في كل بيت ذكائب الرحمة وصناديق (فك الكروب) وصحاف المعونة على غلاء الأسواق وقسوة الأسعار. فإذا ما انقضت العشرة الأولى فإن العشرة الآخرة الوسطى.. يكون الهلال الوليد ذاك قد نما وشب عن طوق الهلال لقمر يتوق لأن يكون بدراً قبل وقت التمام.. ويتم الله بقدرته على الأفئدة التي صفّت بفعل الصوم حتى غدت (مسايد) و(خلاوى) و(مساجد) يفوح منها البوح في التراويح بغزير الدمع وهتاف الصدور.. يتم الله نعمته وقدرته بالتصديق للصائم بجائزة الغفران.. ثم يبدأ القمر الذي اكتمل بدراً في رمضان في (لململة) ما تبقى من ضوء في عشريّة أخيرة تلتحم فيها تلاوة (التراويح) ب(سور التهجد) الذي يسترخي عنده الليل في غرف الفجر الذي يجهر بصدقه في مقطع الأذان الأخير من ليلة صبح العيد.. ينقضي الشهر، الأيام المعدودات.. يُفك (اللجام) من الأفواه.. يعود للنهار أن يُقسم وجبات الطعام إفطاراً.. وغداءً وعشاءً.. وتسكت عن صلاة العشاء آيات التراويح.. ثم تخفت (طرقعة) النعال في صحن المسجد كأن رب شوال ليس هو ذاته رب رمضان..! ولأن رمضان، وأنت عند سيدي الحبيب المعصوم، له نكهة ومذاق بطعم فجر المدينة، يشع بخيوط وينسبر عبر مسام الناس ليستقر يقيناً محضاً طرياً، وكأن ليلة من العشر الأواخر صادفت دعوة ل "سعد بن أبي وقاص" أستجيبت بعد نطقه للتو بالتصديق، دعوة مستجابة مقبولة نافذة بفعل (الكاف) و(النون).. بها تنشرح الصدور وتخفق الأفئدة بِوّرد الفجر المشهود. المدينة - طيبة الطيبة - عِطرُ عُود الدعاء يضمخ ترابها.. ويزيد خصب نخلاتها فتوة في التمر وبَرَكة في (الرُطب) وارتواء من زمزم.. المدينة رمضان عندها وفيها يجعل الصيام رحلة كأنها لا تبدأ بإمساك وإفطار، وإنما رحلة تبدأ من سورة البقرة، ولا يسكت التالي إلا ويقرأ من (الجِنة والناس)، هي رحلة الآيات تُعقم اللسان وتروي الجنان وتشع بالنور المشكاة التي زينتها قدرة الخالق، ومصابيحها ضوء الرحمن الذي أشرقت به السموات والأرض.. ووسع كرسيه كل كون له أرض وفوقه سماوات.. وحين يحين أذان المغرب.. يندهش الناس كيف انطوى النهار ولا انتباه إلا أنه بغتة أتى، وانتهى فك اللجام المقدس عن الأفواه.. فيأذن النخل للتمر أن يتساقط جنياً في أفواه الركع السجود. وتمر المدينة فيه دهن من سمن نخل (ثنيات الوداع)، وفيه سكر في بركة نخل (قباء)، وطعم عنب من كف (عداس).. التمرة وجبة كاملة بها تصوم العشرة الأوائل من أيام الشهر الكريم، و(رطبة) من نخل (الطائف) تكفي للعشر الأواسط، ثم أن جرعة من زمزم هناك تروي كل ظمأ العشر الأواخر.. ولاسيما إذا صحبتها (عجوة) من مبطلات (السِحر)!! الفجر هناك له أجنحة من خفق أقدام (البُراق)، والظهر تستحي شمسُه أن تسيل للصائم (عَرَقاً)، والعصر يؤكد في كل دقيقة (سورة العصر)، أما (المغرب) فهو هالة من جلال غمام خَرَجَ من أفواه الصائمين، وقد علا الدعاء دخاناً من وهج التسليم بالقبول الحال.. ولأن العشاء له صلاة تؤجل الشفع والوتر وتطوي كل آيات جزء مقسوم على أيام الشهر كل ليلة بجزء يزيح عن الصدور حرج الأيام التي مضت، ولم تدرك كل دقيقة من زمان مضى بغير تلاوة أو سجود.. فهو عشاء به (عشاء) وجبة من طعام طهور!! الإفطار في مسجد سيدي الحبيب أبي القاسم، وقد أضاءت ثريات الصدور ضوء ثريات المسجد، فامتزج نور المشكاة الرباني بنور اليقين الذي غمر الصدور بنور مصابيح الدنيا، فأصبح السراج قمراً، وأضحى القمر سراجاً، وعم العيون ضوء المعصوم، فترى ما لا تستطيع رؤيته العيون من وراء سجف حقيقة اليقين.. أن ترى الله بالتحديق في أوجه الصائمين الذين أفطروا للتو، وكأنما قد صاموا ساعة من نهار.. طوى اليقين عنهم غائلة الجوع والعطش، فأضحوا خفافاً كأنهم مخلوقات من نور.. ثم إني أتيت الحبيب سيدي.. الطيب.. الحاشر.. المجتبى.. كيف جئت؟ كيف ووقفت؟ وماذا قلت؟ كم من الوقت وقفت؟ ذلك كله لم أدره، ولم أقدر على استرجاعه ابدأ!! لهذا - سيدي - اعتذر إليك.. فإن جئت حافياً، فهذا لا يكفي.. كان أن آتي و(بُطن) قدمي ما عَلِقّت بنعل قط.. إلا نعل لم يطأ حقاً أو يمشي فوق أرض لم تمسها قدم أخذت - بغير حق - حقاً للغير.. وأعتذر مسبقاً - سيدي الرسول - إني تجولت في أرض المدينة بنعل.. كان أن أخلع مثل موسى الكليم نعلي عند ساحة المطار.. أسفي - سيدي - إن وقع نعلي على خطوة من خطاك ما بين (لابتي) المدينة!! كيف وقفت عند بابك، هل استقمت واعتدلت وسويت صفي، ورتبت أضلعي فوق صدري؟ وكيف أوقفت الزفير في الشهيق كي لا يرتفع صوت في حضرتك، ولو كان نبضاً أو فجور شهيق..؟ كيف كان ثبات أقدامي وأنا لا أدري أأطأ أرضاً أم أصعد سهيلاً أم إني على الماء أمشي؟ معذرة (سيدي) عن وقفة أردتها سجوداً لولا أنك نهيت عن سجود لغير الله.. (ماذا قلت)؟ أذكر - سيدي - هذا تحديداً، قرأت (سورة محمد) كاملة، مضغت كل كلمة، واجتررت كل آية، وشربت من ماء السورة ما روى عطشي لقريتك (وكأين من قرية...الخ) ثم شهدت عياناً تلك الأنهار من (لبن لم يتغير طعمه) وسكرت حلالاً بخمر من (عسل الجنة المصفى).. ثم قرأت أواخر سورة (التوبة).. وليت - سيدي - كنت شهوداً و"علي" كرم الله وجهه يقرأ السورة في يوم الحج الأكبر.. معذرة - سيدي - فالمشركون النجس يطأون (قبة الصخرة) ونحن في حضرتك نقرأ ختام سورة (براءة)!! كم من الوقت قضيت؟ الزمان هناك لا يخضع لمعايير دورة الشمس ولا دوران القمر.. رغم أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً، ورغم إنّا أكملنا صيام رمضان ثلاثين يوماً.. لكن عند بابك تختلف معادلة الزمن.. ألم تسر من (بكة) وحتى الأقصى في بضع من ليل..؟! وهم يضربون أكباد الإبل شهوراً ليصلوا إلى منتهى الإسراء؟! ألم تعرج للسموات العلا وتعجز (ناسا) أن تُنيخ (صاروخها) إلا في السماء الدنيا؟! الزمن هنا مثل زمن هبوط ليلة القدر.. بغتة.. تتسرب الرحمة ويتم القبول.. لذا إن أطلت الوقوف عند بابك، فلأني قصدته بكل حروف كلمة القصد والإصرار، وتأكيدهما، فلِي عندك حاجة!! لا تقوى هذه الورقة أن تتحمل حروف كلماتها ولا يقوى قلمي على كتابتها، بل لا يستطيع لساني أن ينطقها.. وقبلك رب الناس يعلمها.. فاقضها لي سيدي رسول الله.. حين ذهبت في عصر يوم من أيام العتق من النار إلى مسجد قباء، وقد توضأت وضوء من يبتغي مع الصلاة أجر عُمرة وصليت اثنين واثنين وأتبعتهما بأخريين، ثم صليت صلاة العصر.. ووقفت لحظات عند (قبرك القصواء).. شممت عطرك الفخيم مسكاً بكراً لا تنجبه أسماك ولا بحريات.. هو عالق في أنفي حتى موتي..! ورأيت بالتمني أن أرى القصواء وقد هتف صحابي في جموع المستقبلين (دعوها فإنها مأمورة) هكذا يقول الرسول.. أناخت القصواء (فبركتُ) وكأني هي!! فمعذرة - سيدي - أنه الشوق وإنه التوق في أن أشفي الغليل!! ثم دلفتُ إلى (أُحُد)، وعند جبل الرماة انتحيت ناصية شرقية، قرأت فيها جزءاً من قرآن صوَّر الأمر، وفضح مكنون الصدور.. ثم عند "حمزة" بكيت ل"صفية"، وكأنها خالتي التي أرضعتني.. ف"حمزة" - سيدي النبي - نحن أمة السودان كلنا بواكيه، وهو في صدورنا مقبور.. وتذكرت فتى قريش الزاهد "مصعب (الخير) بن عمير".. وعرفت أن للشهادة ذات الطعم الذي ذقته في "الزبير".. وعند مسجد (القبلتين) صليت.. وتذكرت صلاة (الظهر) تلك، وقد جاء جبريل بالآيات التي جعلت وجهك الذي ظل يتقلب بين مشارق ومغارب، يرجو قبلة يرضاها رب العالمين ليتولى شطر مكة التكبير.. سيدي.. رمضان كشف برحيله ظهري، فاجعلني في شوال وحتى رمضان، يأتي ستراً ورتاجاً يفصل بين ونزع الشيطان.. اجعلني أعبد رب رمضان كما أعبد رب (صفر) و(جمادي) و(ربيع) ولا تحرمني - ربي - وبحق نبيك ورسولك أن أصوم دوماً مع سيدي المعصوم بعد أن أؤدي العمرة كل عام. ويا رب الناس، إني واحد من الناس الذين يَغدُر بهم دوماً هذا الوسواس الخناس.. وأصارعه وأخاف أن يصرع في لحظة ضعف ثبات يقيني، فقني - برحمتك - كيد الشيطان.. وبعد.. لئن قلت ما لا يجب أن يقال فاعذرني.. فأنا جئت من المدينة (بطاناً) من عند رسول الله وأخاف أن أصبح (خماصاً) من غير زاد بعده..!