أرجو أن نكون تجاوزنا بالفعل عام الصدمة، على الأقل هذا ما بشرنا به وزير المالية .. وهو يتنفس الصعداء بالإجازة البرلمانية للميزانية دون تعديل ! لا أعرف ما قصده الوزير بالصدمة، فالصدمة لم تكن واحدة، ولا عشراً .. ولا مائة .. بل كانت آلاف الصدمات التي ضربت المواطن .. في معاشه، وفي طموحاته وتطلعاته، وفي اعتزازه وكبريائه، وأحاقت به هزيمة نفسية ماحقة .. جعلته بائسا يائسا محطما، يضحك في مواقف البكاء، ويبتسم في مواقف التعاسة. بالأمس .. أخبرتني زميلة بأن والدها، يبحث منذ ثلاثة أشهر عن دواء على شكل أقراص لتنظيم ضربات القلب، لكنه لا يجد هذه الأقراص، وقيل إن هناك جرعات كبيرة لكنها شحيحة .. قد توجد في بعض الصيدليات الطرفية، لكنها إذا وجدت، فلا بد من تكسير القرص الواحد لنصفين .. أو لأربعة أرباع حسب الجرعة المطلوبة !! زميلتنا أكدت انها راضية بشراء جرعة كبيرة من الدواء، وراضية بتكسير الحبة إلى أربعة أجزاء لتتناسب مع جرعة والدها، لكنها لم تجد أثرا لتلك الجرعة الكبيرة، فقد اختفت هي الأخرى من الصيدليات الكبيرة والصيدليات الطرفية ! وبالأمس قرأنا أخبارا عن شح الغاز في مدني، بل ان بعض الشركات في العاصمة تسجل غيابا في الغاز حسب ملاحظات البعض، والغاز من السلع التي لم يعد هناك مجال للمناورة فيها، وهناك حسب الأخبار تفاوتات في الأسعار، خصوصا وأن الشح يخلق ضغطا إضافيا على الأسعار، ويجعلها قابلة للانفلات بأكثر مما هي عليه ! أخبار الأمس .. حملت أيضا تلويحات من العاملين بمستشفيات الخرطوم، يشيرون فيها لإمكانية الدخول في إضراب مفتوح عن العمل .. احتجاجا على تواصل المماطلة في صرف استحقاقات مالية .. تراكمت لأربعة أعوام متتالية على ذمة الحكومة ! لا نعرف كيف تم تجاوز عام الصدمة، والصدمات استمرت أعواما وأعواما، ولا تلوح بوادر لانفراجها، فالميزانية الجديدة التي صفق لها البرلمانيون طربا، تعتمد في 60% من إيراداتها على الضرائب، وكاهل الناس لم يعد قادرا على حمل المزيد من الأعباء، كما أن الميزانية لم تعرفنا بما تحمله من مؤشرات خير لأولئك الذين يدفعون الضرائب، سواء في معاشهم .. أو صحتهم .. أو سكنهم والخدمات المقدمة لهم ، في حين يحترم كل العالم دافع الضرائب، ويسعى بكل حماسة لخدمته .. تقديرا لتلك الضرائب التي يدفعها لخدمة لا لخدمة غيره ! ما يمكن فهمه، أن الانفراجات البترولية الصغيرة، والتي نتمنى أن تتنامى سريعا، ربما يكون هناك تفكير في استيعابها داخل الميزانية، رغم التصريحات التي نفت وجود أي اعتماد على ما يمكن أن يرد من بترول الجنوب، وهو نفي لا يمكن الاطمئنان عليه، في ظل حديث عن تجاوز الصدمة، وغياب أي مؤشرات على إمكانية هذا التجاوز. نفهم أن السيد وزير المالية .. وزير فدرالي لا بد أن يضطلع بدور سياسي في معالجاته للميزانية، ونفهم أن تصريحاته لا يمكن أن تخلع ثوب السياسة في زمن تكاثرت فيه الاحتقانات، وحاصرت الناس من كل صوب . نفهم بعض هذا .. لكننا لا نفهم أن تكون الصدمة قد تلاشت، دون مؤشرات حقيقية، وبواقع يفضح الجفاف في موارد العملة الصعبة، وصعوبات معيشية لا تعرف السقوفات في انفلاتاتها وتطايرها .