ما زلنا نقول كل يوم : " صباح الخير"، فيرد علينا الآخرون بكل ترحاب : "صباح النور". حالة النكد التي تسيطر على الحياة .. لم تترك أثرها في تحيات الناس. والصباحات التي تحمل يوميا المزيد من هموم المعيشة في كل بيت .. لم تغير من رونق التحية وبهائها . شخصيا .. لم أسمع أن أحدا في السودان تذكّر معاناته صباحا .. وطافت بذهنة مآسي السياسة التي شطرت البلاد، واسترجع أكاذيب السياسيين بنهاية (الصدمة) في اقتصادنا المنكوب .. ولذلك فلم نشاهد تبعا لذلك أحداً يحيي الآخر ب : "صباح الشؤم" .. فيرد الآخر بسرعة : " صباح الزفت" !! على أي حال المفردات السودانية نفسها اعتراها الكثير من التغيير، وباتت هناك كلمات ملغومة ومقلوبة المعني، فإذا كان الشخص لئيما سيئ الدواخل .. فقد يصفه آخر بأنه (عسل) !!، ويكون الوصف مفهوما جدا للمستمع، وإذا قيل لأحد : " الضحك حيشرطك" .. فإنه حتما سيهيئ نفسه لكارثة ماحقة ستأتيه من حيث لا يحتسب ! حتى العبارات المفهومة جيدا لدى الناس .. قد تأخذ معاني مختلفة، فإذا قالت فتاة لحبيبها والحياء يملا جوانحها : "تعال من الباب"، فهذا لا يعني أن الحبيب يفضل الدخول من النوافذ، لكنها تقصد أن يتقدم لوالدها .. بدلا من الجرجرة في حقول الحب المزروعة بالألغام ! وإذا قال مسؤول في محفل دعائي : "أبوابنا مفتوحة للجميع"، فهو يقصد أنه مستعد لسماع أي شخص، رغم أنه في الغالب لا يستمع لشخص، ولا يترك باب مكتبه مفتوحا إلا لسكرتيرته الحسناء ! أما إذا قال أحدهم غاضبا لشخص آخر : "الباب يفوّت جمل" فهذا لا يعني أنه يملك في منزله بوابة عبد القيوم، بل يعني أن على الشخص مغادرة المكان .. مطرودا بكل الحفاوة التي يستحقها ! وتتدخل المواقع في تحديد معنى الكلمة الواحدة، فإذا سألك أحدهم قائلا : "أين العمود" .. وكنت في مستشفى الخرطوم مثلا، فالمقصود طبعا سيكون هو عمود الأكل .. في حين أنك لو سألت مهندسا معماريا بقولك : "أين العمود" فسيتجه تفكيره للعمود الخرصاني الذي سيقيمه في المبنى، وإذا سألت شركة الكهرباء عن مكان العمود، لاتجه تفكيرهم لعمود الكهرباء، في الوقت الذي لو قلت فيه لسكرتير التحرير في أي صحيفة : "أين العمود" .. فإنه سيفهمها بأن المقصود هو عمود الكاتب الصحفي وليس شيئا آخر. حتى (الصرف) له معانيه حسب المكان والزمان، فإذا سألت زميلك آخر الشهر : "هل صرفت"، فإنه سيفهم أنك تسأله إن كان قد قبض ماهيته التعيسة أم لا، أما إذا كان نفس السؤال بعد الماهية داخل أحد الأسواق، فإن المعنى يكون صرف القروش عن بكرة أبيها .. في سوق يلتهم كل الراتب في لمح البصر ! أما إذا كان الوقت فصل الخريف، وقلت إن المشكلة في الخرطوم هي (الصرف) فالمعنى لا يستقيم بأي فهم سوى صرف المياه، وهو الصرف الفاشل بدرجة امتياز .. رغم كل الأموال الضخمة التي نسمع عن (صرفها) في كل خريف ! المفردات قد تتحد، لكنها تتباين في معانيها حسب المكان والزمان والسياق .. والشاطر من يفهمها بالطريقة السليمة .. ولكل حادثة حديث !