في لمحة (ملل) ومجرد زهج من (صنة) الصباحية بعد خروج العيال للمدرسة، كنت أتوكأ على عصا الريموت واهش بها على غنم القنوات الفضائية، لتقف بي صدفة على قناة (ساهور) التي كانت تبث مدحة ( من بعد الليل ما جن ناس ليلى جنّي .. زاد الغرام عليا وبالشوق شجنّي) من اداء خالد محجوب .. دست بشدة على فراملي وصنقرتا علي حيلي طربا واندماجا مع المدحة، فقد كانت كلمات القصيدة التي تعبّر عن مدرسة من مدارس الصوفية والاستغراق في سحر ولذة قيام الليل ذكرا وفكرا، ولطف المدحة جاء من بديع وغرابة التشبيهات، فقد شبة شاعر القصيدة لذة عبادة الليل التي تأخذ بروحه، بحسناوت يسلم لهن نفسه فيفعلن فيها العجب حين يحملونها لسماوات النقاء والصفاء بعد غسلها من الهموم والاحزان .. من زمان مدحة (ناس ليلى جنّي) قاعدة تعجبني وتأثرني، إلا أن صوت خالد محجوب العذب اضاف عمقا وبعدا آخر للمدحة .. غايتو جننا بيها جن زيادة على جن ناس ليلى ذاتن. ذكرتني متابعتي للمدحة بأداء خالد محجوب وهو يلبس ملابس الصوفية المرقعّة مع خلفية المساجد وتقابة القرآن، بالطرفة التي تحكى عن أحد مشاهير علمائنا الذين جمعوا بين الشريعة والقانون، فقد كان يؤم المصلين في الجامع فيبكيهم بتلاوته العذبة التي تخشع لها قلوبهم فتسيل دموعهم، وفي المساء يبكيهم لسبب آخر حين تتوالى على رؤوسهم خمسيناته المتتالية بسبب براعته في لعب الكوتشينة .. ذكرني خالد محجوب بشيخنا لانه كان يبكينا حنا وتحنانا بأدائه لاغنية الشوايقة الحنونة ( يا رمال حلتنا زولا كان بآنسك يا حليلو .. فات رحل من بلدو روّح وفاتلو لي دار ماها هيلو) ، ثم صار يبكينا في المديح ب (من بعد الليل ما جن). لا أدري إن كان السبب في ظاهرة ميل المغنين لأداء المدائح هو نتاج طبيعي للأثر الايجابي الذي حملته قناة (ساهور) لسماوات البث الفضائي، كأول قناة متخصصة في مدح الرسول صلوات الله وسلامه عليه، أم أن الحكاية مجرد موضة وتقليعة جديدة، فقد تابعت قبل فترة على نفس القناة الفنان محمود عبد العزيز يؤدى مدحة وهو يرتدي جبة الصوفية .. !! من زمآآآن اختلف العلماء ما بين تحريم الغناء مطلقا أو السماح به مع وضع الضوابط اللازمة كي لا يكون ملهاة للمؤمن عن دينه والسعي الجاد في دنياه، ولذلك عبر الزمن تابعنا حالات (الهاشمية) و(الهوشة) التي قامت ببعض المغنيين والمغنيات في عالمنا العربي، ودفعتهم لاعلان التوبة النصوحة عن الغناء ثم التراجع خطوة عن ذلك العزم والاكتفاء بأداء المدايح النبوية، إلا أن الكثير منهم تنهار عزيمتهم ولو بعد حين ويرجعوا تاني من تاني .. ففنان العرب (محمد عبده) كان قد أعلن توبته وهجرانه لدنيا الطرب، وبعد ما يقارب العقد من الزمان حرم فيه المحبين من فنه وصوته، عاد للغناء مرة أخرى وكان من تبريراته للعودة بعد الغياب، بأنه استفتى فأفتوه بأن لا بأس في ذلك .. طيب مش كان من أول؟ أما أشهر من تعب وأتعب الناس معاهو في ذلك المجال، فقد كانت الفنانة المادحة المصرية (ياسمين الخيام) .. متذكرين اغنية المقدمة بتاعة مسلسل (محمد رسول الله) الحلوة ديك .. هي البتغنيها، وياسمين اسمها الحقيقي ( افراج محمود خليل الحصري) ... ايوة ياها افراج بت العالم والمقرىء المصري الجليل (محمود خليل الحصري)، فقد بدأت معاناة ذلك الشيخ الجليل حينها عندما سمح لابنته الصغيرة (افراج) بأداء بعض التواشيح الدينية في احدى المناسبات لتمتعها بذلك الصوت القوي وجميل، وما أن سمعها أولى الشأن من أهل المغنى حتى تكأكأوا عليها، و(ملوا) ليها راسا وأمالوه لدنيا الغناء، طبعا رفض الشيخ ذلك الأمر وقاومه بشدة ودخل في حرب طويلة مع الاعلام عندما منع ابنته من (الدخلة والمرقة) وحبسها في البيت، إلا أنه لم يفلح طويلا في كبح جماحها عن الدنيا المبهرة التي لاحت لعينيها .. فقد خرجت عن طوعه بعد أن تزوجت حيث شجعها زوجها على الغناء فخلعت الحجاب بعد ان كانت منقبة، وغيرت اسمها ل (ياسمين الخيام) عندما تبرأ منها الشيخ المغلوب على أمره ودخلت لدنيا الغناء والشهرة التي فتحت لها زراعيها، ولكن بعد زوال الغشاوة من عينيها بعد حين عادت للحجاب ومن ثم اكتفت بأداء المدايح النبوية حينا قبل أن تعتزل نهائيا وتحتجب عن الأضواء .. طبعا بعد ان مات ابوها غبنا ومغصة !! أما عندينا فان أشهر من أعتزل الغناء فهم (عبد الله البعيو) و(اسماعيل حسب الدائم) و(الجيلي الشيخ) صاحب ( لولا دموعي من نيراني كنتا حرقتا)، وان كان كل من الاخيرين قد لاذ بدنيا الصفاء والمديح واستغنى بها بعد أن رفض مبدأ ال ( ضحكة ولعبة وآخرتا كوم تراب) ! لطائف - صحيفة حكايات [email protected]