ما ظللت أردده خلال السنوات الأخيرة لتبرير صمودي في العاصمة القطرية الدوحة خلال فصل الصيف الحارق، يندرج تحت بند ما يمسيه الخليجيون «الخرطي» وهو الكلام غير المؤسس الذي ينضح كذباً، وحقيقة الأمر هي أنني أفضل البقاء في الدوحة خلال الصيف طلبا للثراء، ففي فصل الصيف، تكثر العروض والحوافز المغرية للمستهلكين: سيارات، ومئات الآلاف كاش، وتستطيع في عموم دول الخليج أن تشتري وقوداً لسيارتك من إحدى المحطات مرة واحدة لتتلقى بعد كذا يوم اتصالاً هاتفيا بأنك فزت بسيارة جديدة، واتسعت معمعة الحوافز، ودخلت فيها المطاعم والمجمعات الاستهلاكية، ولأنني متيم بحب أبي الطيب المتنبي فإنني أعمل بمقولته: إذا غامرت في شرف مروم / فلا تقنع بما دون النجوم.. ويفسر هذا سر تعلقي ب«النجمة» نبيلة عبيد والسيارات الفارهة ولكن من زاوية: إني امرؤ مولع بالحسن اتبعه / لا حظ لي منه إلا لذة النظر، وقوله أيضا: وإذا كانت النفوس كباراً.. تعبت في مرادها الأجسام. وإذا خيل إليك عزيزي القارئ أنني ضعيف أمام أي عرض من أعراض الدنيا، فأنت غلطان، ثم غلطان فالشاعر الذي استطاع أن يعبر عن دخيلتي هو محمود سامي البارودي: خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة / علي يدا أغضي لها حين يغضب/ وما أنا ممن تأسر الخمر لبَّه / وياسر سمعيه اليراع المثقب/ ولكن أخو همة إذا ما ترجحت / به سورة نحو العلا راح يدأب.. والعلا الذي دأبت عليه هذه المرة يستأهل. فما أن أعلن مطعم في الدوحة تقديم جائزة سيارة رولزرويس، لمن يقتني كوبونات نظير تناول الطعام هناك، حتى قلت لنفسي: هانت يا أبو الجعافر تأكل من حر مالك ثم يأتونك ذات يوم ليقولوا لك مبروك وتلتقط لك الصحف صورة مع الرولز وتتحقق أحلامك.. وقدرت أن مغادرة الآلاف للمدينة خلال الصيف ستعزز من فرص فوزي بالسيارة المترفة، وأقنعت عيالي المشاغبين وزوجتي الإرهابية بالصمود والتصدي للصيف بعد الإيعاز لأصدقائي في وسائل الإعلام المتخصصين مثلي في تزوير الحقائق، بحيث يصبح الطغاة حكاماً منتخبين بالإجماع، بتزوير أرقام درجات الحرارة لتخفيف التأثير النفسي لعدم السفر في الإجازة على أفراد عائلتي. وكم كانت دهشة عيالي عظيمة عندما وجدوا أنفسهم يتناولون ثلاث مرات يوميا وجبات كنت في ما مضى أنهاهم عنها، ولكن، كإعلامي عربي أصيل تمرس في إلباس الباطل ثياب الحق، أقنعتهم بأن إكمال الخريطة الجينية لابن آدم أثبت أن الكوليسترول والدهون مفيدة للقلب والشرايين، وخاصة إذا تم تناولها بكميات تجارية، ويا حبذا لو كانت التحلية بزيت الفرامل، حتى أصدقائي الذين كانوا نزلاء المستشفيات كنت أشتري لهم وجبات سريعة من مطعم الرولز رويس لأحصل على عدد أكبر من الكوبونات. عاتبني كثيرون على هيامي بتلك السيارة، فشطبتهم من قائمة معارفي وأصدقائي: يا جماعة تسنى لي بعد خمس سنوات من دخولي الياة العملية اقتناء سيارة كان مجرد الجلوس بداخلها ينقض الوضوء، وأتيت إلى الخليج فأصبحت زبوناً مقيماً في أسواق (الحراج)، حيث تباع السيارات المستعملة، ثم فتحها الله عليّ واستطعت لاحقاً أن أشتري سيارة لم تلوثها مؤخرة آدمي قبلي من وكيلها المعتمد، وقد حدثتكم من قبل عن ذلك الحدث الجلل الذي اهتز له البرق عندما أقامت الجاليات النوبية في أركان الدنيا الأربعة المهرجانات احتفالاً بتبرجز أحد أخلص أبنائها، ولن أنسى فرحة أمي ولا الغرور الذي ركبها عندما تسلمت صورة فوتوغرافية لي وأنا جالس خلف مقود السيارة الجديدة قبل نزع البلاستيك عن مقاعدها، وبلغ بها الزهو والغرور مبلغاً جعلها ترفض تناول الأكلات الشعبية السودانية والإصرار على شراء الطعام من فنادق الدرجة الأولى، ولولا أنها لا تحسن استخدام الشوكة والسكين، ولولا أنني أفهمتها بدبلوماسية بأنني لا أستطيع تمويل نزعاتها البرجوازية الجديدة وسداد أقساط السيارة في الوقت نفسه، لدخلنا أنا وهي في السجن في انتظار قيام فاعلي الخير بإقالة عثرتنا. [email protected]