أنا كلمة ظريفة ، ولا يوجد أظرف منها في الدنيا ، إنها أغنية ، إنها تدخل في أي جملة فتجعلها جملة مفيدة مهمة ، وتدخل في أي موضوع فتجعله موضوع الساعة . ولكن أنا .. من أنا ؟ ، هل حاول أحدكم أن يسأل نفسه هذا السؤال : من أنا ؟ ..أنا فلان ،، فلان إيه ؟ فلان بن فلان ، يعني إيه ؟ ، مجرد رموز أو اشارات تدل على حقيقتي ، طيب وماهي حقيقتي ؟ ، وهنا يبدأ اللغز ، ماهي حقيقتي ؟ إني أحاول أن أمسك بوجودي وأكتشفه ، وأفحصه كما أفحص هذا الشيء الذي بيدي ، فأجد أنه وجود بلا قاع ، وجود منفتح من الداخل على امكانيات لا نهاية لها ، وأُلقي بحصاة في هذه البئر الداخلية فلا أسمع لها صوتا ، لأنها تهوي وتهوي إلى أعماق بلا آخر . من الخارج لي حدود ، ينتهي طولي عند (...) سنتيمترا لي سقف ينتهي جسدي عنده ، ولكني من الداخل بلا سقف وبلا قعر ، وإنما أعماق تؤدي إلى أعماق تؤدي إلى أعماق ، وصور وأفكار وأحاسيس ورغبات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد كأنها متصلة بينبوع لا نهائي ، وهي أعماق في تَغيُّر دائم وتبدُّل دائم ، بعضها يطفو على السطح ، فيكوِّن شخصيتي ، وبعضها ينتظر دوره في الظلام ، وأنا في الخارج أتبدل أيضا ، الواقع يكشط هذه القشرة التي تطفو خارجي ، فتطفو قشرة أخرى من عقلي الباطن محلها ،، وكلما أمسكت بحالة من حالاتي وقلت هذا هو أنا ، ما تلبث هذه الحالة أن تفلت من أصابعي وتحل محلها حالة أخرى ، هي أنا أيضا . أنا احتضن العالم بإختياري وأخلع عليه اهتمامي وشخصيتي وأتبناه وأظل مصاحباً له طالما هو أنا ، فإذا انتهت هذه العلاقة الأنانية ، عدت إلى نفسي ، ولكني لا أنجو مع هذا من الإبتذال ، والتردي في هوة الناس ، العالم يبتذلني أحياناً ، فأذوب فيه بعض الوقت ، أخضع لروتين العادة والعُرف والمُجاملات وأُضيِّع نفسي في الثرثرة وأختبئ وراء المشاكل اليومية ، وأتستر خلف الناس ، وأقول وأنا مالي ؟ هم عاوزين كدا الدنيا كلها بتعمل كدا ! ، وفي هذه الحالات تضيع مني نفسي ، تضيع مني ( أنا ) وأُصبح موضوعاً من الموضوعات مثل : الكرسي والشجرة والكتاب ، وأفقد الشيء البِكر الذي يُميِّزُني عن كل شيء ويجعل مني نسيج وحدة ، يجعل مني ( أنا ) فلان الفلاني ، هذه أوقات لا أحس بها ، وإنما تبدو ممسوحة ومشطوبة من حياتي ، تبدو فترات موت ، حريتي تعذبني ، لأني حينما أختار ، أتقيد بإختياري ، وتتحول حريتي إلى عبودية ومسؤولية ، وهي مسئولية لا ينفع فيها إعفاء لأنها مسئولية أمام نفسي ، أمام الإختيار الذي اخترته أنا .. وحبي يعذبني لأني أريد أن أمتلك محبوبي وأُذيبه في داخلي وأشرب شخصيته وروحه وجسده ، أريد أن أحوِّله إلى أنا ، وهذا مستحيل لأنه هو الآخر له ( أنا) وذات حرة مثلي . تتلامس حقائقنا وأسرارنا في لحظات مضيئة ، ثم نمضي إلى حالنا كل واحد مغلق على سره .. إن كل ما نملكه هو أن نفتح نوافذ على الخارج ، ولكننا لا نستطيع أن ننقل عفشنا ونسكن بيتا جديداً ، إن روحنا سر ، وذواتنا قُدس الأقداس ، إن الله يضع كل جنده على باب ذاتنا كما يقول طاغور ، ولا يسمح لأحد منا بالدخول فيها ، لأنها حَرَمْ ، حَرَّمَها على الكل وخلقها حرة كالطائر الغرد . ماذا هناك بداخلي ؟ (إرادة )، إرادة لا نهائية لا حد لها إلا نفسها ، إرادة حُرَّة خالقة مُبدَعَة تنبثق انبثاقاً في بداءة وفطرة ، أُحِسُّها ولا أعرفها ، أُكابدها ولا أفهمها ، لأنها تفِرُّ مني كلما حاولت فهمها كما يفر النوم من عيني كلما حاولت أن أتعمقه وأحلله ، وربما كان السبب أنها أصيلة ، أكثر أصالة من العقل والتفكير ولا يمكن أن تكونَ موضوعا للعقل والتفكير ، بل العكس هو المقبول ، أن يكون العقل موضوعها وخادمها وسبيلها إلى بلوغ أهدافها . أنا أريد ،، والعقل يبرر لي ما أريد ، وليس العكس أبداً ، إن كل شيء خاضع للإرادة، ثانوي بالنسبة لها ، في لحظات إبداعي وخلقي ،في اللحظات التي أحس فيها بأني أخلق نفسي وأخلق الأفكار والقيم وأكتشف العالم وأصنع المعقولات أحس بأني أدفع العالم كله أمامي ، أدفعه كالعربة و وفي اللحظات التي أموت فيها وأسقط في هوة العادة والتكرار والتقليد والمجاملات والروتين، وتضيع إرادتي من يدي ، أحس بأن العالم كله يدفعني أمامه كالعربة ، أحس بأن عين جاري تجعلني أنكمش في ثيابي كأنها عين الله لا شيء في الدنيا أكبر من (الإرادة )،،، الظروف المالية والبيئة والوراثة لا تلغي الإرادة ولا تمحو الحرية أبداً ، ولكنها تؤثر فيها ، ثؤثر في الكيفية التي تعلن بها عن نفسها ، أنا والظروف نتصارع في لحظة الفعل فقط ، ولكن كُلاً منَّا له وجوده البكر ،، أنا حر وإرادتي حقيقة ، تماما كما أن الظروف موجودة وحقيقية . ولكن ! ماهي الإرادة ؟ ،، لا توجد كلمة تصفها أو تشرحها ، لأنها أكبر من كل الكلمات وتتجاوزها ، فكل وصف يبدو حيالها ناقصاً ، إنها كالشوق لا يوصف وإنما يُكابَد ، تنطبق عليها كلمة المتصوِّف الصالح أبو البركات البغدادي : "أظهر من كل ظاهر وأخفى من كل خفي "،، إن أحسن طريق لمعرفتها هو أن تباشرها ، فهي المفتاح السحري الذي تَفتَح به الكون كله ( الإرادة) ،، ولنا لقاء هنادي محمد عبد المجيد [email protected]