مقاماتُ الليل والنهار من الجبل الأحمر إلى المنار .. مجموعة قصص قصيرة للروائي الفذ الدكتور عمر بن سالم ، وله في كل كلمة وجملة معنى مقصود معلوم لديه ، يستطيع الوصول إليه كل من تبحّر في كتاباته وسبر غَوْر شخصية الكاتب من خلال مؤلفاته العديدة ،، هذه المجموعة القصصية تحوي أحد عشر قصة قصيرة ، في كتاب من الورق المُمَيّز الفارِه السميك لا تتعدى عدد صفحاته ال 78 صفحة صادر عن دار سحر للنشر بتونس .. وللإطلاع على هذا الإبداع المتميز سنسرد هذه القصة * القصبة الطموح : "عندما هبّت من نومها في مطلع الربيع ، كان جذع جدّتها يُرهقها ويمنعها من تَنَسّمِ الهواء ، وكانت أُمُّها تسد في وجهها الأفق ، ولا تتركها تطل من كُوَّتِها الغبراء ، وكانت هي الناشئة الطموح تهفو إلى خمائل الأشجار والزهور ، وتسرح بوهمها إلى منابع الأنهار .. وذات ليلة تعلّق برعُمُها الصغير بحبال النّوْءِ عندما أدلى بها آذار ، فأستطال جيدُها بسرعة ، وغادرتْ قامتها التراب .. كانت غداتها نحيفة وهشة الإهاب ، وكان صوتها كالغرغرة ، ثم صفا في ما يلي من الأيام ، فأصبح مُنغّماً كالنفخ في المزمار .. ولما انسدلت أوراقها جدائل فرعاء ، وازداد قدُّها صلابة غصنها ارتواء ، صارت تطل من علوها على الحشائش الكسيحة ، وتشمخ برأسها إلى السماء .. كانت الأنوار عندها مطية الإلهام ، وكانت النجوم تحكي لها الأسفار ، وتملأ عالمها الغرير بأبهج الأحلام .. أما مطالع الشموس والأقمار فكانت مرسم الإبداع وورشة الفنون والأنغام .. وذات يوم ، وقد أحست بإستثارة الشباب وسريان مائه في غصنها الميّاح ، سألت جارتها ملكة الأزهار : هل تسمحين ، سيدتي ، بوردة من غصنك الفواح ؟ أنت يا صغيرتي ، مُحتاجة إلى الغِذاء ، والزينة من عمل الغواني وخِصْلة مُختصة بالأثرياء ، ثم ماذا تُصْلِح الورود للقصب وليس له فستان ؟ أريد أن أُزيّن جدائلي الخضراء ، وأحفَل بها في مَرْقَص الأنسام . الرقص أيضا ليس للصغار ، عودي إلى السياج ، وقومي مثل أهلك بواجب حماية البستان ، فنحن معشر الزهور تنهكنا الرياح الآتية من جهة الغروب ، وليس لنا دِثار يحرُسُنا من الزكام غير أغصان السّروْ والقصب .. أحسّت الصغيرة يومها بأنها قد خُلِقَتْ حقيرة ، وأنّ عُمرها سينقضي وهي رهينة السّياج ، وأنها وسائر فصائل النجيل ليسوا في شِرْعَةِ الورود والأزهار غير عساكر منتصبة في الواجهة الغربية لمنع البرد والزوابع من أن تضر بالمشاتل المحظيّة . قالت لأمها ساعتها ، وقد أعْنَتَها الحِوار : من الذي رتّبك ضِمن فصيلة الحُرّاس ؟ ثم لماذا قيّدتني في رسوة السّياج ؟ إني أريد أن أكون حُرّة مثل بقية الحُرّات : أُهاجر مع الطيور والفراش ، وأستقرُّ حيثما يطيب لي المعاش ، ثم لماذا ليس لي ما للورد والتفاح من العطور والألوان ؟ أنت يا بُنيّتي ، سجينة المكان ، ليس لك أجنحة تحملك إلى بعيد ، عروقك مشدودة إلى الرِغام ، وجِذعك لا مخلص له من ربقة الأسوار ، قَدَرُكِ وقدري وقدر الطرفاء والقصب أن نكون حاجزاً لمنع عاصف الرياح من أن تضُرّ بالأغراس والنوّار . وما الذي يمنعنا من امتلاك بُقع الجيران ، ولنا عروق صلبة سريعة النمو وقادرة على احتلال كامل البستان ؟ ألا ترين الماء عندهم بلا حساب ؟ ألا ترين التربة الثرية والحرث والتسميد ؟ ألا ترين الإعتناء بالأتلام ؟ ألا ترين كيف تسند الجذوع والأفنان ؟ يكفينا معشر القصب أن نُبَيّت الأزهار والأشجار ، وأن نقلبها رأساً على عقب ، ثم نسلب أغصانها الياقوت والمرجان ، فتصبح وراثة في قومنا كالتاج للسلطان . أنت يا بُنيّتي غريرة ، لا تدركين للحياة معنى، ربما أنْجَبتُك من نُطفة عجول ، ليس لها صبر على معرفة الفصول والصّفات ، وإلا ما الذي أطمعك في وردة ، وعمرها لو تعلمين لا يتجاوز الساعات ؟ انتظري بُنيّتي ازدهار عودك الفينان ، ألا تدرين أنّ من تغطى بدثار غيره يُعدُّ كالعريان ؟ " التحية كل التحية للمبدعين الذين جادوا وما بخلوا بعطاءاتهم الثرة ، وليعلموا أنهم سطّروا أسماءهم بماء الذهب على صفحات التاريخ الخالد ، فللكاتب المبدع الدكتور عمر بن سالم التحايا والتبريكات لبلوغه الحول الثمانين ونتمنى له البركة والعافية في الصحة والعمر هنادي محمد عبد المجيد [email protected]