وانتهى مشواري كمدرس بالمرحلة المتوسطة، وهي المهنة التي اخترتها بعد رفضي الاستمرار في كلية الحقوق/ القانون بجامعة الخرطوم، ورفض إدارة الجامعة انتقالي فورا إلى كلية الآداب، مما حتم عليّ الابتعاد عن الجامعة لعام دراسي، ثم التحقت بكلية الآداب، وكان النظام الأكاديمي فيها يقضي بأن يدرس كل طالب اللغتين العربية والإنجليزية في السنة الأولى، ومعهما مادتين من اختياره، ولا يبدأ التخصص إلا في السنة الثالثة على أن يكون في مادتين، وعند تسجيل المواد كانت رغبتي الأولى اللغة الفرنسية، لأن تحدي تعلم اللغة العربية كنوبي أعجمي، ثم تعلم الإنجليزية والوقوع في غرامها عزز عندي تعلم لغة «أجنبية» ثالثة، ولكن عميد الكلية المؤرخ المعروف البروفسر مكي شبيكة أبلغني بأن برنامج الفرنسية لا يستوعب المزيد من الطلاب (كان عمداء جميع الكليات من أصحاب المؤلفات الضخمة وأعضاء في جمعيات أكاديمية دولية.. وتكفي الإشارة هنا إلى أن عمادة كلية الآداب آلت إلى العالم العلامة والسوداني الوحيد الذي نال عضوية مجمع اللغة العربية وصاحب أهم المراجع في الشعر العربي القديم البروفسر عبدالله الطيب) ما لا يعرفه الكثيرون عن جامعة الخرطوم هو أن كلية الاقتصاد كانت في الأصل مجرد شعبة تابعة لكلية الآداب، وأن مادة الرياضيات كانت مادة من حق طالب الآداب دراستها، ولكن طلاب الآداب كانوا أعقل من أن يتورطوا مع تلك المادة، التي كانوا يسمونها «هادمة اللذات»، وكان الاستثناء الوحيد هي كرستين ويلسون وكانت أمريكية سمراء وفاتنة، تسبقنا بعامين دراسيين، وقد حولت كرستين هذه العديد من طلاب الجامعة إلى شعراء، وكانوا جميعا من فئة: وشاعر لا تشتهي أن تسمعه/ وشاعر لا تستحي أن تصفعه»، وتعزز عند عشاقها أنها فتاة فلتة عندما قررت اختيار الرياضيات مادة أساسية إلى جانب العلوم السياسية، وكان التكليف مرفوعا بين كليتي الآداب والاقتصاد فكان من حق طلبة الآداب دراسة مادتي العلوم السياسية والأنثروبولجي (علم الأجناس) الخاضعتين لسلطة كلية الاقتصاد، بينما كان من حق طالب الاقتصاد دراسة التاريخ أو الجغرافيا مع طلبة كلية الآداب، ولهذا كان طلاب الكليتين الأكثر التصاقا ببعضهما البعض اجتماعيا مقارنة ببقية الكليات ولأن الجامعة كانت تحظى باعتراف دولي كبير، وتعد من أرقى مؤسسات التعليم العالي في العالم (كان ترتيبها لسنوات أعلى من ترتيب الجامعات اليابانية والكورية واليونانية والبلغارية والرومانية إلخ)، فقد كان الدبلوماسيون الأجانب في الخرطوم يحرصون على إلحاق أولادهم وبناتهم بها، مثلا كانت معنا في كلية الآداب الهندية مينا الكسندر، وكان يشاركنا السكن طالب هندي اسمه نهرو، وكانت هناك طالبة من بلغاريا تذكرني بأبطال رفع الأثقال في المنافسات الأولمبية، فقد كان طولها نحو «مترين إلا ربع»، وعرضها متر وربع، وبالمقابل كان أساتذتنا من مختلف الأجناس، وعلى سبيل المثال فإن محفوظ الباكستاني في كلية الاقتصاد وجون أباظة البريطاني في كلية الآداب وفازديف الهندي في كلية القانون قضوا في الجامعة أكثر من أربعين سنة، وكانت تدرسنا فقه اللغة الإنجليزية في كلية الآداب مس (الآنسة) سميث، وكانت في تقديرنا فاشلة كمدرسة ولكنها كانت لا تخلو من ملاحة تجعل الطلاب يحرصون على حضور محاضراتها، وأذكر ذلك اليوم الذي كانت تقف فيه أمامنا تشرح وتكتب، وكان الجزء العلوي من بلوزتها مفتوحا لأنه نسيت (بالتأكيد لم تتعمد) إقفاله بال«زرارة»، فتوجه إليها زميلنا عبد المنعم صالح الشهير ب«بندق» ونبهها للأمر ثم عاد وجلس في مكانه فانهالت عليه عبارات التقريع: مالك أنت يا حاسد يا حشري. جعفر عباس [email protected]