الطيران الحربي يستهدف تجمعات لمليشيا الدعم السريع في العطرون والراهب وكرب التوم    مبابي يطعن باريس بشكوى جديدة    لجان مقاومة الفاشر إن المعركة الحقيقية تتمثل في فك الحصار عن المدينة وتقاسم السلطة معركة جانبية    وصول المجموعة الثانية من السودانيين العائدين من الجمهورية الإسلامية الإيرانية    "النصر إلى الأبد".. رونالدو "القائد التاريخي" يجدّد عقده مع "العالمي"    التدميريون والكومبارس.. (هانت الزلابية)..!!    في ليلة عنوانها الوفاء .. القطاع الرياضي بهلال كوستي يودع مدربه عمار مرق    شاهد بالصورة.. الإعلامية السودانية الحسناء شيماء سعد تثير الجدل على مواقع التواصل بالبنطلون "النمري"    شاهد بالفيديو.. الفنانة اليمنية الحسناء سهى المصري تخطف الأضواء على مواقع التواصل السودانية بعد تألقها في أداء أشهر أغنيات ثنائي العاصمة    شاهد بالفيديو.. الفنانة فهيمة عبد الله تغازل عازفها الجديد في إحدى حفلاتها الأخيرة وجمهورها يرد: (مؤدبة ومهذبة ومحتشمة)    مستشار حميدتي.. مستعدون للحوار مع الحكومة إذا توفرت الجدية    فوبيا الطيران تجتاح العالم.. الصواريخ والطائرات المسيّرة تثير فزع المسافرين    ميسي يتصدر قائمة أعلى الرواتب في الدوري الأمريكي لعام 2025    قوات إسرائيلية في إيران.. زامير يكشف "مفاجأة ما بعد الحرب"    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (كلام للغد)    إبراهيم شقلاوي يكتب: آن للسودان أن يرقص على رؤوس الأفاعي    قرارات إتحاد حلفا الجديدة البدء في تأهيل أرضية الملعب وطرح عطاءات للإستثمار    تراثنا في البازارات… رقص وهلس باسم السودان    السودان.. محاولة اختراق ومجلس القانون يوضّح التفاصيل    يعني خلاص نرجع لسوار الدهب وحنين محمود عبدالعزيز..!!    "مقامرة كبرى" خاضها ترامب بضرب إيران.. هل سيقطف ثمارها؟    الترجي رابع فريق عربي يودع مونديال الأندية    حادثة مروّعة في مصر.. سيّدة تطيح بأسرة كاملة    الخرطوم.. "طوق أمنيّ" في"الجقب" والحصيلة مرعبة    د. ياسر محجوب الحسين يكتب: من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟    مكافحة المخدرات بولاية بالنيل الابيض تحبط محاولة تهريب حبوب مخدرة وتوقف متهمين    السودان يشارك في إفتتاح مهرجان الاذاعة والتلفزيون العربي ال 25 بتونس    استدعاء مالك عقار .. لهذا السبب ..!    إدَارَة المَوهِبَة بَينَ نميرِي والترَابي ومِيسي ورونالدو    إيران فقدت الكثير من أوراق اللعبة التي كانت بيدها .. ووقعت ضحية لموجة تضليل أمريكي إسرائيلي    بالميراس يضع ميسي وإنتر ميامي في مواجهة نارية أمام باريس    هل كان أمير قطر علي علم مسبق بنية إيران إرسال صواريخها الباليستية إلي قاعدة العديد ؟!    "سيستمر إلى الأبد".. ترمب يعلن بدء وقف إطلاق نار شامل بين إسرائيل وإيران    مزارعو القضارف يحذرون من فشل الموسم الزراعي بسبب تأخير تصاديق استيراد الوقود    إيران ترد على القصف الأمريكي بعملية عسكرية    قوات الجمارك مكافحة التهريب بكريمة تضبط كميات كبيرة من المخدرات    أسهم الخليج تتجاهل الضربة الأمريكية    التلاعب الجيني.. متى يحق للعلماء إبادة كائن ضار؟    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    المتّهم الخطير اعترف..السلطات في السودان تكشف خيوط الجريمة الغامضة    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدبان الازرق
نشر في النيلين يوم 16 - 01 - 2016

برغم أنهم سبقوا العالم الإيطالي إلي اكتشاف خطأ نظرية التولد الذاتي، وبالتالي، قد انتبهوا منذ قرون إلي أن الذبابة الزرقاء “Calliphora vicina” أو “Blue bottle fly” هي المتهم الأول بالمسئولية عن تحلل أجساد الموتي، إلا أن هذا الاكتشاف نُسِبَ إلي مؤسس علم الأحياء التجريبي “فرانسيسكو ريدي”، كان شاعرًا أيضًا في القرن ال 17 أثبت بالدليل الذي لا يقبل القسمة علي اثنين أن ديدان المقابر لا تطرأ ذاتيًا إنما من بيض الذباب..
وحتي الآن، ما زال سكان مصر الأصليون، يعتقدون أن ذبابة زرقاء تحوم في البيت قبل مرور أربعين يومًا من وفاة أحدهم، وفي أي وقت، هذا يعني أن روح ميت جاءت البيت زائرة، وعلي هذه الخلفية، كانوا ينظرون إليها بما يشبه الشغف، يحدث أن تمتصهم الذكريات أحياناً، وأن تدمع أعينهم أيضًا!
غير أن هذا الاعتقاد السائد لم يكن يحظي باحترام معظم الذين حصلوا علي قدر من التعليم يكفي ليجعلهم يضعونه في حيز الأسطورة، وهو في الحقيقة إلي الأسطورة أقرب لولا أن رمزيته تتماهي بشكل كبير مع حقيقة علمية مثيرة، ومما يعمق من هذه الرمزية وعيهم التام بدورة حياة هذه الحشرة، وهي أقل من أربعين يومًا..
لقد عرفوا بطريقة ما أن أسراب الذباب الأزرق تهتدي إلي جثث موتاهم، ولربما، لهذا يصفون السنين العجاف ب “سنين زرقا”، ويصفون ذائعي الصيت بالخبث فيهم ب “الفِتل الزرقا”، ويصفون الشرير ب “نابه ازرق”!
إنها واحدة من الحقائق التي تجعل الإنسان يشهق من فرط الدهشة، كيف سبقوا العالم إلي معرفة أن الذبابة الزرقاء بواسطة قرون الاستشعار تستطيع أن تشم رائحة الجثث الطازجة عن بعد خمسة كيلو مترات، وأن تصل إلي مخابئها في غضون دقائق قليلة، ثم تضع بيضها حول فتحات خروج السوائل والغازات: الأفواه والجيوب الأنفية، فلا تمر ستة أشهر حتي يكون الدود قد التهم جسد الميت كاملاً، خلال هذه المدة تكون دورة حياة الحشرة قد اكتملت تمامًا، لتقوم بتكرار الدورة في جثة أخرى، وأظن أنهم نجحوا في التوصل إلي هذا الإكتشاف من خلال ملاحظاتهم التراكمية حول مراحل صناعة السمك المملح، أو ما يعرفه المصريون ب “الفسيخ”، ذلك أن مفردة “التحلل” قريبة المعني جدًا من مفردة “التفسخ”، ربما، وربما أيضًا، من خلال ملاحظاتهم التراكمية حول شغف هذه الحشرة باللحوم النيئة وقدرتها المذهلة علي اكتشاف أماكنها!
بمرور الوقت، بهدف المبالغة في تهديد أحدهم بإخفاء جثته في أبعد مكان عن العالم، أذابوا هذا الاعتقاد في تعبير شهير: “الدبان الازرق ما يعرفلوش طريق جرة”!
وهذه فرصة مناسبة لنتفهم لماذا بالغ المصريون القدماء في إخفاء جثث موتاهم داخل طبقات كثيرة من الكتان الصلب، ولماذا كانوا يحرصون أثناء عملية التحنيط علي إخراج مخ الميت وتفريغ جسده من السوائل والغازات، ثم وضع الملح في كل بقعة من الجسد بإسراف شديد، والقطران أيضًا، كأنهم انتبهوا إلي امتلاك الأخير بعض خصائص المبيدات الحشرية، ما يجعل من الواضح جدًا أنهم كانوا المصدر الذي أخذ عنه العرب اختيارهم الأول لعلاج الجرب، وثمة حادثة تاريخية مشهورة تؤكد استخدام العرب القطران للتداوي، ذلك أن الشاعر الفارس “دريد بن الصمة” رأي الشاعرة “الخنساء” لأول مرة فأحبها عندما كانت متخففة من ملابسها تدهن بالقطران جملاً أجربًا، وخلد هذه اللحظة في أبيات منها:
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بهِ / كاليوم طالي أينق جُرْبِ
متبذلاً تبدو محاسنُه / يضعُ الهناءَ مواضعَ النقب..
من الواضح أيضًا أن العرب أخذوا عنهم كذلك أفكارهم السابقة عن الذباب الأزرق فلقبوا “عبد الملك بن مروان”: “أبو الذبّان” لشدة نتن رائحة فمه، فهذه مقاربة تاريخية تكشف وعيهم المستعار من جيرانهم بالعلاقة بين ذباب المقابر وبين جثث الموتي، وإن كنتَ مثلي لا تثق في كل روايات العصر العباسي عن الأمويين لشهرة الرواة باختلاق الكثير من الروايات التي تطعن في بني أمية بهدف استرضاء الخلفاء العباسين، فنحن، أمام واحدة من الروايات التي لا تغير احتمالية عدم صدقها من الأمر شيئاً!
ولوعي العرب المستعار بهذه العلاقة جذور أكثر عمقاً يفضحها اسم “عنترة بن شداد”، ذلك أن اسم “عنترة” يعني “الذباب الأزرق”، وهذه المعلومة كافية بالقدر الذي يثير الشكوك في أن يكون هذا الإسم اسمًا اختاره له أبوه، إنما اكتسبه “عنترة” بعدما ذاع صيته، كأنهم أرادوا أن يشبهوا قدرته علي القتل بقدرة الذباب الأزرق علي اكتشاف الجثث النافقة، فلا أعتقد أن أباه قد تنبأ بمستقبله وليدًا، مع ذلك، ثمة بيت من معلقته يدل علي أن الذباب الأزرق كان شائعًا في مجتمعاتهم إلي حدٍّ دفع أباه أن يختاره اسمًا له، وبنفس القدر، دفع “عنترة” إلي أن يقول:
فترى الذبابَ بها يُغنِّي وحدَهُ / هزجًا كفعل الشاربِ المترنمِ
غردًا يحكُّ ذراعَه بذراعِه / فعلَ المُكبِّ على الزنادِ الأجذم
صورة البيت الأخير موفقة جدًا، لكنها، سوف لا تثير إعجاب إلا من رأي عن قرب ذبابة تحك جناحيها، لقد رسمها “عنترة” في صورة رجل مبتور الذراعين يشعل نارًا!
وعلي ضوء ما سبق، من المدهش أن يربط “عنترة” بين الذباب والغناء ونشوة الخمر إلا إذا افترضنا أنه كان يري الموت جميلاً ووديعًا!
محمد رفعت الدومي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.