بالتزامن مع نجاح موسم القمح بمشروع الراجحي، أضاف الاستثمار السعودي نجاحاً آخر لاقتصادنا الوطني.. ولقد أحسنت مراسم الدولة عملاً وهي تضع افتتاح مصنع تعليب الخضر والفاكهة بكريمة في برنامج رئيس الجمهورية، لتحظى منتجات المصنع – الكاتشب وغيره – بكل هذا الترويج.. وبث وسائل الإعلام لخبر تدشين الرئيس لإنتاج مصنع أو مشروع زراعي, خير من مليون ندوة ومليار سمنار تعقدها السلطات عن الاستثمار في السودان!! وكتبت يوماً.. ما أن تفتح محلاً لبيع العصائر وينجح المحل، يأتي آخر ويفتح محلاً للعصائر أيضاً بجوارك .. ثم يأتي ثالث ورابع، ويصبح المكان سوقاً للعصائر.. ثم يكتشف أحدهم أن المكان يصلح لإنتاج الخبز، ويبني (فرن بلدي)، وينتج ويربح.. ليأتي آخر ويبني – بجوار الفرن البلدي – مخبزاً آلياً، أي يطور فكرة صاحب الفرن البلدي، ليربح أكثر.. ثم يأتي آخر بفكرة جديدة .. و.. و.. هكذا تؤسس المجتمعات أسواقها ثم تدير نشاطها.. بالمنافسة وتطوير الأفكار!! وما بالمجتمعات يرتقي إلى مستوى الدول في حال أن تدير أجهزة الدولة واقع الناس بذات وعي المجتمع.. وهذا ما كنا نفتقده على مستوى الدولة، أي تقديم نماذج استثمارية مشرقة للعالم.. تقديم مشاريع نموذجية – للعالم – أفضل من مليون ملتقى ومؤتمر و (طق حنك).. وتصدير معلبات خضر وفاكهة ذات جودة بديباجة (صنع في السودان)، يجذب من رؤوس الأموال – لصناعات أخرى – ما لا تجذبها الثرثرة الإعلامية والخطب السياسية!! هكذا عالم الاستثمار، أي كما أسواق المجتمعات، ربح رأس مال يأتي برؤوس أموال أخرى، ونجاح فكرة يأتي بأفكار أخرى، فتنهض الدول وتستقر الشعوب.. وكثيرة هي الفرص التي أهدرتها سلطات بلادنا – في السنوات الفائتة – بالطمع الذاتي وأحياناً بالحسد، وكثيراً بسوء التخطيط وقُبح التنفيذ.. ولذلك، تسعدنا عودة الرشد – إلى السلطات المسؤولة عن الاستثمار- بحيث صارت الأخبار هي (إنتاج وافتتاح وتدشين)، وليست المحاكم مع الأهالي أو الصراع مع الولاة!! أخبار الإنتاج والافتتاح والتدشين هي التي تجذب أموال العرب والعجم .. ومع ذلك، ثمة نصح في الخاطر، وابتدرها بحكاية.. بعد تمكين العدل، وبعد أن عمّ الخير لحد البحث عن السائل والمحروم في الأزقة والحواري ولا يجدونهما، قال الخليفة عمر بن عبد العزيز للزرّاع : (انثروا القمح على رؤوس الجبال).. ليس فقط تحسباً لجوع الطيور، ولكن أيضاً (حتى لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين).. نعم، (حتى لا يُقال)!! فلنتأمل – في عبارة حتى لا يُقال – حرص عُمر على نقاء (مظهر الدولة).. وهذا هو معنى أن يكون نظام الحُكم حريصاً على نقاء مظهر الدولة وشعبها في نفوس وعيون الآخرين .. ومن حُسن مظهر الاقتصاد الوطني تحفيز وتشجيع أبناء الوطن (معنوياً ومادياً)، بحيث يؤسسوا المصانع ويزرعوا الأرض وينافسوا الاستثمار الأجنبي – بالجودة وتطوير الأفكار – في الإنتاج والتصدير .. نعم، بقليل تشجيع وتحفيز، يُمكن إخراج الرأسمالية الوطنية من عالم التجارة – والسمسرة في الأراضي والدولار – إلى عالم الصناعة والزراعة!! وعلى سبيل المثال، فالشركات الكبرى التي ظلت تستورد القمح والدقيق – وتتنافس على شراء قمح الراجحي حالياً – قادرة على تصدير القمح والدقيق.. ولكن كيف؟.. بالتشجيع على الإنتاج، أي بمنحها ببعض المزايا، ثم بالحسم الذي يرصد ويتابع تلك المزايا حتى تتحول إلى (إنتاج) وليس (تجارة).. وقبل تسع سنوات، بشرتنا كبرى الشركات المستوردة للدقيق بترتيباتها لزراعة مليون فدان بوادي حلفا.. وإلى يومنا هذا، لم نحصد غير الوعد، ثم قمح الراجحي .. شجعوها بالمزايا لتنتج، ثم استردوا الأرض إن لم تُسخر المزايا في الإنتاج!! وكثيرة هي الأفدنة المحجوزة بتصاديق الزراعة والصناعة، وكثيرة هي المصانع المهجورة، كما مصنع كريمة سابقاً.. فالبعض بحاجة إلى تحفيز ليحول الأفدنة المحجوزة إلى (مصادر إنتاج)، والبعض الآخر بحاجة إلى حسم يعيد الأفدنة لمن يفلحها، وطنياً كان أو أجنبياً.. وبوتين، عندما كان رئيساً للوزراء، أعاد تشغيل أكبر مصانع الأسمنت بعد خطابه الشهير للملاك : ( لقد أخذتم هؤلاء الناس كأسرى بسبب طموحكم، وعدم كفاءتكم وجشعكم.. مصير المئات من الأشخاص على المحك.. وهذا غير مقبول تمامًا.. إذا لم تتوصلوا أنتم المالكون إلى اتفاق فإن هذا المعمل سيشتغل من جديد، بطريقة أو بأخرى، بكم أو من دونكم)!! وعليه، مع جذب وتشجيع الاستثمار الأجنبي وحمايته، فعلى الحكومة استغلال هذا المناخ في تحفيز وتشجيع وجذب وحماية الاستثمار الوطني أيضاً.. وهذا ما يُمكن أن يسمى بالاستثمار الإستراتيجي الذي لا يتأثر بالمؤثرات الخارجية وتقلبات طقوس العلاقات السياسية، وقالتها الحكمة الشعبية قبل قرون بوضوح : (لا تضع كل البيض في سلة واحدة) .. بلادنا حبلى بأمثال الراجحي والقحطاني والعتيبة وغيرهم، فقط بحاجة إلى سلطات تُحفزهم (أولاً) وتحاسبهم (لاحقاً)، أو كما تفعل سلطات بوتين!! الطاهر ساتي