*كانت ليلةً هي الأطول في حياتي.. *والأسوأ… والأبرد… والأغرب… والأشد إخافةً ؛ كذلك.. *كان بردها – في ذلكم الوقت من شهر كياه – لا يحتمل ؛ رغم الأغطية الصوفية.. *وكنت أقضي جانباً من دراستي الابتدائية هناك… في البلد.. *لم أنم – تلكم الليلة – حتى لحظة تنبيه مؤذن الجامع لصلاة الفجر.. *والريح ذات العواء المرعب لم تتوقف إلا في اللحظة ذاتها… أيضاً.. *وفوق رعب زئير الريح كان هنالك شيءٌ أشد إرعاباً.. *وأصل الحكاية أن من بين زملائي في الفصل توأمان ؛ حسن وحسين.. *حسين كان مصاباً بشلل الأطفال… حسبما سمعت.. *وساعده الأيمن الناحل اُمتص منه ماء الحياة… فبدا كالعرجون القديم.. *أما اليد – بأصابعها الرفيعة – فأشبه بمخالب طائر نافق.. *وهي أكثر ما كان يشد انتباهي من بين عجائب المدرسة كلها…وما أكثرها.. *ومنها أن عقوبة الجلد في فصل الشتاء لها طقوسها.. *فهي لا تستهدف إلا اليد ؛ ظاهرها بالمسطرة… وباطنها بفرع شجرة أعجف.. *ومنها جلب البطيخ والشمام من السوق نهار الخميس.. *ثم التهامهما بشراهة في المدرسة ؛ ولا أدري لم الخميس بالذات… ولم أسأل.. *ومنها تخصيص حصة صباحية لرياضة كرة القدم.. *فإذا بدأت حصص الدروس سال العرق – مع الحبر – على الكراسات.. *وكانت إدارة المدرسة تتكفل بإفطار التلاميذ بواسطة متعهد.. *كل خمسة منهم يتحلقون حول صحن كبير… فيمتلئ الحوش بالمتحلقين والصحون.. *وحسبته سوء حظ – وقتها – حين وجدت حسيناً في حلقتنا.. *أو بالأحرى هو الذي وجدني ضمن حلقته ؛ فهو الأقدم… وأنا (عابر فصول).. *فما كنت أستسيغ الأكل لشيء في نفسي (العوَّافة)…آنذاك.. *ثم توفي حسين هذا فجأة ؛ مع مقدم شهر كياه… أو كياح كما ينطقه البعض.. *فبكته المدرسة… وأشجارها… وأحبارها… وعصافيرها…. وأنا.. *أنبني ضميري جداً… ثم جاء الليل بزمهريره – وزمجرته – فضاعف أحزاني.. *فمن أساطير منطقتنا أن عويل ريح كياه ما هي إلا روح ميت.. *ولم يمت يومها سوى حسين ؛ فهي – إذاً – روحه… وهي غاضبة مني ولا شك.. *فقد كانت نظراته تفضح إحساسه بشعوري المفضوح نحوه.. *وتفتأ الريح تعوي… وتصرخ… وتزمجر… ولا تبرح محيط منزلنا ؛ هكذا ظننت.. *بل وظننت أنني سمعت اسمي مراراً… كلما صفقت الريح شيئا.. *وحين طفق المؤذن ينبه لصلاة الصبح سكتت الريح فجأة… وسكنت (الروح).. *أو لعلها سكنت بعد أن (سكت) عنها الغضب تجاهي.. *واستمدت روحي أنا من سوء الحظ ذاك حسن حظ بتعلم الدرس باكراً.. *درس عدم التأفف من أي (روح)…هي من (روح) الله.. *وشكراً (روح حسين !!!). صلاح الدين عووضة صحيفة الصيحة