-1- كتَبَ قبل يومين الصديق العزيز دكتور مزمل أبو القاسم، بأخيرة الحسناء (اليوم التالي)، مُبدياً استغرابه لتهاون السلطات المُختصّة في محاربة تجارة العملة ، كنشاطٍ غير مشروع! بكُلِّ تأكيد، مزمل لا يرى أن الإجراءات الأمنية كافية لاستقرار سعر الصرف، طالما أن الجهات المصرفية عاجزةٌ عن توفير احتياجات الموردين والمرضى والمُسافرين، فسيلتمسون الحصول على العملة الأجنبية في السوق الأسود أو الأحمر! لكن، طالما أن هناك إجراءات اقتصادية ونقدية، فتحت الباب لتقديم أسعار واقعية، كانت مُرضيةً لقطاعات واسعة من المُتعاملين بالنقد الأجنبي، وكان يجب أن يتْبَع ذلك تشديدٌ رقابيٌّ وعقابيٌّ على تُجَّار العملة الساعين لهزيمة السياسات الجديدة. هي نظرية الجزرة والعصا، التحفيز والترهيب. كتب مزمل الآتي: (لم نرَ أية إجراءات استثنائية لمناهضة السوق السوداء خلال الأيام الماضية، وهو أمر موغلٌ في الغرابة، إذ لا يعقل أن تنتهج الدولة سياسة جديدة تتسم بالجرأة والواقعية، وتستهدف بها محاربة السوق السوداء، ثم تترك تجار العملة يعملون على عينك يا تاجر، ليهدموا سياسات الدولة، ويخرجوا ألسنتهم للتوجُّه الجديد). -2- أُشاطر مزمل استغرابه، وسبق لي الكتابة عن ذات الموضوع قبل أشهر حين كتبت في هذه المساحة: وسط الخرطوم صغارُ تجارِ الدولار تجدهم أكثر انتشاراً من قوات الشرطة! كبارهم يبذلون جهداً أقل، لا يتجاوز المكالمات الهاتفية، ويحصدون المليارات بين ساعة وأخرى وغفوة وانتباهتها. تجارة الدولار، رابحة إلى تماسّ الفحش، وآمنة إلى حدِّ الاسترخاء. -3- من تقاطُع المك نمر مع شارع البلدية، إلى قلب السوق العربي، صغار المضاربين يُلوِّحون جهاراً نهاراً بالعملة الوطنية مُهانة القيمة! في مساحة محدودة وعالية الحساسية وذات حضور أمني كثيف وكاميرات مراقبة مثل مطار الخرطوم، قبل أن تلتقي مُستقبليك من الأهل والأصدقاء، تجد صبيةالدولار في استقبالك بابتسامة مراوِغةٍ وهمسٍ جهير: (داير تغيِّر عملة؟). هذا المشهد لن تجده إلا في السودان. كبار تجار العملةمعروفون بالاسم والعنوان؛ لهم قرى وأحياء، وحسابات مصرفية في بنوك محددة، بعضهم رموز مجتمع، وآخرون في قوائم البرّ والإحسان! -4- تجارة العملة في الخرطوم ليست نشاطاً إجرامياً سرياً يحتاج إلى تدابير وتحوطات، هو عمل عاديٌّ وطبيعيٌّ مثل بيع مناديل الورق، يُمارس في العلن أمام بوابات المطار، وفي الطرقات وبالقرب من البنوك! تجارة العملة نشاط، رغم خطورته وضرره الذي يبلغ أذاه كل فردسوداني، ليس معاباً اجتماعياً وليس مجَرَّماً في واقع التطبيق. أسوأ من الفساد التطبيع مع الفساد وتحوُّل المجرمين إلى رموز واللصوص إلى وجهاء مجتمع! -5- في زياراتي المتعاقبة لمصر، لاحظت كيف استطاعت الحكومة المصرية إيقاف تدهور الجنيه المصري والحفاظ على كرامته في مواجهة سطوة الدولار وشدة بطشه. البنك المركزي المصري أصدر من القرارات، ما أدى إلى ترشيد الاستيراد إلا في الحالات المُلحَّة والمنتجات الضرورية فقط. لم تكتفِ الحكومة المصرية بذلك، بل ألحقت الإجراءات باستخدام عصا الزَّجر والترهيب. جاء تعديل القانون لتشديد العقوبات كمايلي: (يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على عشر سنوات، وبغرامة تُساوي المبلغ محل الجريمة، كلُّ من يتعامل في النقد الأجنبي خارج البنوك المعتمدة أو الجهات المرخص لها بذلك، كما تنصُّ على أن يحكم في جميع الأحوال بمصادرة المبالغ محل الجريمة). في بعض الدول الإفريقية القريبة؛ التجارة في العملة الصعبة مجرَّمة أكثرمن تجارة المخدرات وبيع السلاح. -أخيراً- لماذا لا يرتفع الدولار وتتصاعد أسعاره على مدار الساعة، إذا كانت بائعات الشاي بشارع النيل – في تقدير الجهات الأمنية – أخطر على الحكومة من تجار الدولار؟! عتاب حمدي. تلقَّيْتُ عتاباً قاسياً من السيد عبد الرحيم حمدي وزير المالية السابق، على عمود كتبته قبل ثلاثة أيام، كان في مُقدِّمته تعليقٌ على حديث نُسِبَ إليه عن وصول الدولار إلى (شارع الهوا). لم يكن في تعليقي ما يسيء للرَّجل، بل كان بكُلِّ احترامٍ وتقدير، وما كتبتُه وقتذاك كان تعليقاً على مكالمة جاءتني بعد زيارته الكريمة لي في مكتبي وليس قبلها. عل كُلِّ حال أُكرِّر احترامي وتقديري للسيد حمدي، وله مِنِّي العُتبى حتى يرضى. إلى نص الرسالة: السيد ضياء الدين بلال المُحترم قرأتُ في عمودكم بعدد الثلاثاء اليوم، أن صديقاً لك استنكر عليّ (في اتصال بك)، ما زعمته من نبوءة لي بوصول الدولار إلى شارع الهوى أو الهوا! أولاً: إذا قرأت (الانتباهة) أمس الأول، فقد قلتُ فيها إنني لا ألعب "حزر فزر" مع الدولار أو غيره، وكان هذا رداً على خبر كاذب نشرته (أهاج صديقك الحزين!)، وكذبته الصحيفة تماماً لأنه كان فرية (بالفاء)، وموقفي هذا ثابت، قلتُه قبل أكثر من عام في جلسة استماع المجلس الوطني، وأكَّدتُ ألا فائدة للحديث والانشغال بالدولار، ولكن (بالعمل) على تخفيضه. وبعد الجلسة مُباشرةً افترى عليّ صحفي في (الأهرام اليوم)، بفرية الخمسين جنيهاً للدولار وكرَّرَتْها صحفٌ أُخرى فلمَّا سألتهم قالوا إننا نتبادل الأخبار! أرجو أن تطلب من السيد علي محمود عبد الرسول، إذا كانت تلك الجلسة مُسجَّلة أن يُذيع حديثي. والجدير بالذكر، أن الصحيفة المعنيَّة نفته تماماً في اليوم التالي. واليوم يتكرَّرُ نفس الشيء معك، وأنت تملك رقم تلفوني، وكنتُ معك في مقرِّ الصحيفة لأكثر من ساعتين قبل يومين ونشرتَ لي حديثاً مطولاً.. وكان بإمكانك أن تسألني عن هذا الخبل (بالباء!) الذي أقوله، ولكنَّك اندفعت في اللوم والتقريع حتى نيابة عن أصدقائك! اللهم احمني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيلٌ بهم.