(1) في أواخر حياته أتخذ الشيخ الترابي منهجاً في السياسة لم يكن علي إتساق مع طبيعته الشخصية وأدواره السياسية التاريخية المعلومة ، والتي تقوم علي الوضوح الذي يبلغ درجة الحدة في المواقف والآراء ، حيث لم يعرف عن الترابي المواقف الرمادية في الفقه او السياسة ، يومها وضع الترابي حزب المؤتمر الشعبي في خانة أُطلق عليها بلغة المعتزلة في منزلة بين المنزلتين ، وبلغة السياسة كان يصنف الشعبي مواقفه السياسية بأنها لا تنتمي الي المعارضة ولا الي السلطة الحاكمة يومئذ . (2) رحل الترابي قبل ان يقول كلمته الأخيرة ويري خواتيم مشروعه السياسي ويعلل منهجه المثير للجدل ، وظل المؤتمر الشعبي في ذات القالب السياسي الطارئ ، لم يجدد فقهه السياسي ، أستكان الي ذات المواقف الرمادية ، واستمرأ البقاء في خانة المنزلة بين المنزلتين ، علها تنجيه من الخوض في وحل السياسة السودانية الذي ازداد بللاً وضحالة ، حتي اليوم يعجز الشعبي عن القيام باي مبادرة سياسية واضحة المعالم ، ظلت الأيادي مرتعشة عن اتخاذ أي موقف سياسي واضح . (3) يكاد ينطبق علي الحالة السياسية التي تتلبس الشعبي ، النكتة المشهورة عن الأعمى الذي أبصر للحظات ، فرأي رأس الديك ، فكلما حدثوه بشيء ، سأل كيف هو من رأس الديك ، فأصبح قياسه علي راس الديك ، علي هذا أصبح قادة الشعبي يردون كل المواقف السياسية للشعبي الي ذات الرؤية الرمادية الطارئة التي أبتدعها الترابي للتعامل مع ظرف سياسي معين ، وان كان فقه الترابي يصلح لكل العصور في كلياته ، لكن فقهه السياسي في كثير من الأحيان كان يقوم علي الطوارئ بحيث يصعب استنساخه في كل المواقف . (4) علي ذات النحو بمجرد حدوث التغيير في أبريل من العام 2019، استعصم قادة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم السابق بذات الرؤية الرمادية ، ابتدع الوطني تعبيراً لطيفاً لمواقفه السياسية ، سمي موقفه من النظام الحاكم الجديد بالمعارضة المساندة ، ولعله وجد في ذلك مخرجاً من المعارضة المعلنة ، بلغ في ذلك أنه أتخذ مواقف رمادية تبلغ درجة عدم الممانعة في اي تجاوزات ضد حزبه ، مواقف الحزبين تذكرك بإيفان الغبي في رائعة إيفان إيليتش لتولستوي . (5) اتفاق الشعبي والوطني علي ذات الرؤية السياسية التي ابتدعها الترابي ، اذا صدق هذا المنحي من الرأي ، لا توحي بأن المواقف السياسية لكليهما تتشابه عبثاً ، ولا يمكن ان يبلغ الفهم ان هذا منهج سياسي متفق عليه بينهما ، قد يستحيل هذا الفهم لأي قارئ مجتهد للمشهد السياسي ، التفسير الموضوعي ان ما يصدر من مواقف سياسية لحزبي الاسلاميين ، والتي يمكن وصفها بأنها تفتقر الي الجراءة السياسية ، بل يمكن القول أنها تبلغ درجة الخوف من المبادرة حتي ، تفسير ذلك هو ان عجزاً أصاب العقل السياسي للإسلاميين بعد رحيل الترابي ، ويمكن ان تستدعي في هذا الموقف بلا خجل مقولة غادة السمان ، هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابكِ فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا . (6) أتصور ان معالجة هذه العلة التي أصابت العقل السياسي للإسلاميين ، والذين يمكن تشبيههم علي مقولة كونديرا ، كانوا ماهرين في التعامل مع من يطلق عليهم الرصاص او حتي من يرميهم بالحجارة ولكنهم عاجزين عن التصرف حيال الوقوف امام الكاميرا ، المعالجة تكمن في البحث في ميراث الترابي السياسي ، وهو من السعة والقدرة علي استيعاب الحاضر السياسي ، ولا أتصور ان ذات العقول التي افتقدت الخيال قادرة علي الخروج من الميراث بأفكار ملهمة ، فالعقول الكسولة لن تبلغ هذا السعي المطلوب .