قطاع الادوية الان يعاني من مشكلة حقيقية بسبب سياسات النظام المخلوع على مدى ثلاثة عقود ، وتجد الحكومة الحالية نفسها في ورطة وتبحث عن المخرج ، واعتقد انها بحاجة الى العودة الى الوراء لمعرفة كيف كان يسير القطاع تاريخيا وكيف انهار ، لتعرف من أين تبدأ وكيف المشكلة جزريا، فمشكلة القطاع تكمن في الفساد الذي سيطر عليه خلال عهد النظام البائد. الحكاية تعود إلى 30 سنة عندما سيطر النظام المخلوع على السلطة وفتح جميع القطاعات لكوادره للسيطرة عليها ، وتلك قصة طويلة نكشف تفاصيلها هنا ، حيث نجيب على كيف كان حال قطاع الدواء قبل وصول النظام المخلوع إلى السلطة، وكيف بدأ يخرج من سيطرة الدولة إلى مافيات الادوية ؟وماهي المراحل التي مر بها حتى وصل إلى مرحلة الانهيار الكامل ؟. خلفية تاريخية في عهد الاستعمار تم تاسيس الامدادات الطبية وتحديدا في العام 1935 كمخازن مركزية للأدوية التابعة لوزارة الصحة الاتحادية، واصبح يتم استيراد الأدوية للسودان ،عن طريق الإمدادات الطبية للقطاع العام ، وعن طريق شركات الأدوية للقطاع الخاص، و كان يتم توزيع الأدوية عن طريق الإمدادات الطبية مباشرة الى المستشفيات والمصحات والشفخانات، وكانت الادوية تصرف مجانا للمواطنين وكذلك الفحوصات والتحاليل الطبية استمر الحال على هذا المنوال حتى بعد استقلال السودان وتناوب الحكومات الوطنية وحتى قدوم ثورة الإنقاذ 1989و التي حولته الى هيئة تعمل تحت قانون الهيئات والشركات الحكومية عام 1991 وفي العام 2015م حولته إلى الصندوق القومي للإمدادات الطبية ،ولكن دور الصندوق لم يكن كبيرا في ضبط فوضى الدواء التي حدثت قبل هذا العام ولم يتغير الحال. بداية التدهور فى عام 1990 تغيرت كل السياسات الدوائية والإدارات والمناصب بوزارة الصحة والإمدادات الطبية وأتت حكومة الانقاذ بوجوه وسياسات ونظم جديدة ضمن سياسة التمكين التي قامت بها الحركة الإسلامية ، وبذلك تغير القطاع من عام تابع لوزارة الصحة إلى مؤسسة ربحية تجارية تتعامل فى استيراد وبيع الأدوية للقطاع العام والخاص معا ، وبذلك حرم المواطن من المميزات التى كان يتحصل عليها من علاج وفحوصات ودواء مجانا ، وصار يدفع قيمة الكشوفات والفحوصات والأدوية من نفقته الخاصة ، هذا التغيير خلق ارتباكا وفوضي في توصيل وتوزيع الأدوية للمواطنين ،فقبل قدوم الانقاذ كان يتم استيراد الأدوية للإمدادات عن طريق العطاءات العالمية ، وبديهيا تكون الأسعار متدنية ،نفس الادوية أصبح يتم استيرادها عن طريق القطاع الخاص الذي أصبح بأسعار أعلى من أسعار العطاءات . ما زاد الأمر سوءا كان هنالك نقص وشح فى موارد النقد الأجنبي مما جعل هنالك شحا فى الأدوية وظهور السوق السوداء وظهرت مافيا الادوية ، وذلك أدى لتهريب أدوية الإمدادات إلى سماسرة الدواء ،وهذا ساعدهم في الاتجار فى أدوية الإمدادات الطبيةواستغلالها ودمجها مع أدوية القطاع الخاص وبيعها فى السوق الأسود للمواطن بنفس أسعار القطاع الخاص. هذه الفوضى فتحت شهية الكثيرون ممن كانوا ينتمون للحركة الإسلامية لدخول عالم تجارة الادوية ، فأسسوا الكثير المنظمات والشركات التي تعمل في الدواء ، وتمكنت من إحكام قبضتها على تجارته خاصة وأنها كانت تحت حماية مسئولين كبار في الدولة ، أما الإمدادات الطبية فلم تعد قادرة على ضبطه فقد انفرط العقد، والمشهد هذا المشهد بدأ من العام 1990 وما زال مستمرا ، وهو ما يفسر النتائج الكارثية وما آل إليه وضع الدواء في السوق الاسود . عجز الرقابة وتسيس القوانين ما زاد الطينة بلة عجز القوانين والرقابة من القيام بدورها، فلم يكن بمقدور العاملين بوزارة الصحة أو المجلس القومي للأدوية والسموم أو جمعية حماية المستهلك القيام بدورهم الفعَّال وأصبحوا مكتوفي الايدي والسبب هو ضعف وهشاشة القوانين واللوائح وعدم فعَّاليتها خاصة و أنها تعمل على إرضاء فئات معينة ،ورغم المجهودات التي ظلت تقوم بها تلك الجهات لمحاربة الفساد في مجال الأدوية بالأمور لم تتغير بسبب محدودية الإمكانات والسلطات التي جعلت الأمر مستحيل . الكثيرون من الصيادلة ناضلوا واجتهدوا لإعادة الامور إلى نصابها وظلوا يطالبون بأن تلغى رخص جميع تلك المنظمات والشركات وإرجاع الدواء الى ما كان عليه في السابق ولكنهم لم يجدوا اذانا صاغية وأصيبوا باليأس والإحباط بسبب المستوى الذيوصلت إليه تجارة الدواء، فقد أصبحت مهنة الصيدلة في متناول السماسرة ومن ليست لهم علاقة بالدواء بعضهم ما زال يعمل فيها حتى الان . هذا الوضع غير السوي لم يعجب اصحاب التخصص من الصيادلة مما أجبر الكثيرون على ترك المجال ومغادرة البلد نهائيا في الوقت الذي وجد الصيادلة من المنتمين الحركة الإسلامية فرصة كبيرة في التوسع في مجال تجارة الادوية ، كما أن الأجهزة الرقابية لوزارة الصحة الاتحادية أو الولائية أو المجلس القومي للأدوية والسموم لم يكن بمقدورهم فعل شيء لالغاء تلك الرخص والتصاديق لتلك المنظمات والشركات، لأن جزءاً كبيراً منهم له مصلحة شخصية مع قادة النظام ، إضافة الى خوف الاخرين على مناصبهم أو على حياتهم من اولئك التجار المدعومين من نفاذين في الدولة، ولذلك فإن الجهة الوحيدة المنوط بها اتخاذ قرار إلغاء هذه المنظمات والشركات هو البرلمان كأعلى جهة تشريعية في البلاد ولكن هو نفسه عاجز عن فعل أي شيء لأسباب يعلمها الجميع. الانهيار الكامل في العام 2010 وصلت فوضى الدواء إلى قمتها واصبحت شديدة التعقيد بسبب تحكم تلك المافيات في السوق وفقدت الدولة السيطرة على قطاع الدواء تماما، ولم يعد لديها خطة لاستيراده وتوزيعه ، فظهرت الندرة والغلاء وبدأت صراعات محتدمة تظهر الى السطح ارتفع الحديث عن الفساد والجشع، ليس ضد الشركات فقط بل وحتى الجهات الحكومية المعنية بأمر استيراد وتسعير ودعم الادوية في البلاد ،وبدأت الفضائح تطفوا إلى السطح فضائح فساد ضخمة خلفت الكثير من الاسئلة بشأن مستقبل توفر الدواء وأسعاره ومن المسئول عن التلاعب به، وكثرت التصريحات النارية لبعض المسئولبن باتهام جهات تكتسب من الدواء دون مراعاة للمواطن، ورغم ذلك لم تقدم جهة على المحاسبة او اتخاذ إجراءات لتغيير الوضع. البحث عن حل جذري ولكن حاول النظام المخلوع بعد ذلك حل مشكلة الادوية جذريًا بتوفير نسبة عشرة بالمائة من عائدات الصادرات لاستيراد وتصنيع الدواء، ولكن ضعف الرقابة واستغلال النفوذ سهل للشركات التلاعب بهذه التسهيلات وحدث تواطؤ مع كبار مدراء الإدارات والبنوك ،وتم تكوين شركات وهمية لاستيراد الدواء فتحت لنفسها تسهيلات ومنحت شركاتها تصديقات من داخل البنك لتحول في حساباتها ملايين الدولارات كانت مخصصة للدواء بسعر البنك المركزي المعلن ، وآخرى تخلت عن استيراد الادوية وبدأت تستفيد من الميزات والتسهيلات التي تقدمها الحكومة في استيراد سلع أخرى وتوظيف الأموال في مجالات أخرى. في النهاية بدأت الحكومة تعترف بوجود عدد من شركات الأدوية غير ملتزمة بجودة وحفظ الأدوية ومراقبتها ، فضلاً عن وجود أدوية مغشوشة وأخرى منتهية الصلاحية منتشرة بشكل واسع ، وبدأت تحذر وتقوم ببعض الإجراءات الرقابية ولكن كانت المحسوبية تقف حجر عثرة امام تنفيذ الإجراءات وتركت الأمر على ما هو عليه إلى أن سقطت. معاناة دول الجوار الفوضى التي عاشها قطاع الدواء خلال ع عهد النظام المخلوع ،لم تؤثر على السودان فقط بل وحتى على دول الجوار ،فقد نشطت تجاهرة الادوية عبر الحدود واتسع نطاق التهريب من وإلى السودان ، وهذا الأمر تضررت منه دول الجوار وقد دعت إلى إيجاد حل مشترك ،و فى ديسمبر 2014 استضاف السودان المؤتمر الأول لسلطات الرقابة الدوائية بين السودان ودول الجوار لمناقشة الفوائد المرجوة من التعاون المشترك ، وهو لم يتكرر بعد ذلك، فقد شعرت الحكومة السودانية عن عجزها عن تقنين التعامل في الأدوية والمتاجرة بها داخل السودان وهناك جهات نافذة لا تريد حلا ، ولان فاقد الشيء لا يعطيه لم يخدم ذلك المؤتمر القضية . الوضع الراهن ما زالت أزمة قطاع الدواء قائمة حتى الآن وربما أصبح واقعها غير مفهوم،والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا فعلت الحكومة الانتقالية لحل المشكلة ؟ حتى الآن لا شيء رغم أنها عقدت اجتماعات متوالية مع مستوردي ومصنعي الأدوية لضمان توفير الدعم اللازم لاستيراد وتصنيع وتوفير الأدوية حتى لا يحدث أي انقطاع يؤثر على الوضع الصحي، وترأس وزير الصناعة والتجارة مدني عباس مدني، اجتماعات ضمت كل الجهات المعنية بالدواء واتفقوا فيه على معالجات على المدى المتوسط والطويل، بما يؤدي لحل المشكلة بشكل كامل. وتضمنت المقترحات الحكومية توفير الطاقة للمصانع الوطنية، وتأجيل أجل سداد قروض المصانع على البنوك، والمساعدة في توفير المواد الخام لمصانع الادوية ،ولكن لم يتطرقوا إلى من يحق له العمل في هذا المجال ،وماماهي الشروط التي يسمح لأية شخص مزاولة التجارة في الادوية ،لأن تلك المافيات التابعة للنظام المخلوع ما زالت تسيطر على قطاع الدواء، ولكن على أرض الواقع لا جديد. كما أن الحكومة لم تجاوب حتى على السؤال المهم ، ما هي مسئولية الإمدادات الطبية وواجباتها ؟ و السؤال الأهم كيف تضمن الحكومة التزام هذه الشركات المتعودة على العمل في ظل مناخ يسوده الفوضى وعدم المسئولية بأن تكون أمينة معها خاصة وان اغلبها مملوك لكوادر النظام المخلوع ويشجع الثورة المضادة ويسهم في زيادة الازمة . الحل الأمثل في استيراد الدواء عبر العطاءات العالمية يري الكثيرون من أصحاب الشأن والمختصين في مجال الدواء ،ان حل مشكلة الدواء لن تتحقق إلا بعودة الحال كان عليه في السابق – بأن تقوم الإمدادات الطبية باستجلاب أدويتها عن طريق العطاءات العالمية وتوزيعها على المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها بناءً على ما يحقق مصلحة المواطن، وأن يرجع حال القطاع الخاص إلى ما كان عليه سابقاً بأن يقوم باستيراد احتياجاته من الأدوية والمستلزمات الطبية وتوزيعها بنفسه على صيدليات القطاع الخاص عن طريق الموزعين والصيادلة الذين يعملون مع هذه الشركات مع تفعيل وتشديد الجهاز الرقابيالاتحادي والولائي . التعاون مع دول الجوار وإعادة تكرار مؤتمر السلطات الرقابة الدوائية بين السودان ودول الجوار وجعله دوريا من أجل توسيع دائرة السيطرة على تجارة الدواء غير المشروعة. اسماء محمد جمعة