ينتمي الشيخ خضر أحمد، وهو اسمه بالكامل، إلى مدرسة الحفلات التنكرية في العمل العام، فهو إلى حدٍّ ما يمارس دوراً متعمداً في التخفي، داخل وخارج الإطار الحكومي، لكن أثره يبدو تماماً كأثر الفراشة، لا يُرى ولا يزول، أو أعمق من ذلك بكثير في تصريف أعمال مكتب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، حتى أن نفحة غامضة أحاطت به كالأساطير، فبدا كما لو أنه غير موجود في الحقيقة، دون ما يُشار إليه في صورة رائجة، تتسيد الدائرة الضيقة لصناعة القرار، إذ هو تقريباً ثاني اثنين أحدهما السفير عمر مانيس وآخرون خُلع عليهم وصف (شلة المزرعة) الأقرب لجوقة ملهمة يستأنس بها حمدوك. ويتخذ فيها الشيخ خضر وضعية غريغوري راسبوتن الذي احتل مكانة هائلة في تاريخ روسيا القيصرية، وذلك قبل أن تطفو جثته العنيدة فوق نهر نيفا شبه المتجمد. بين الشيخ وراسبوتن دلف الراهب راسبوتن إلى القصر الملكي في سان بيترسبيرغ لطرد الأرواح الشريرة وإنقاذ ابن القيصر نيقولا المصاب بالناعور من الموت، وسرعان ما سحر زوجة القيصر الكساندرا بقدراته الخفية، وبات في وقت وجيز يتحرك ككبير المستشارين، ويملي تصوراته السياسية على الجميع، حد المطالبة بإنهاء الحرب ضد ألمانيا، ما أثار حنق الطبقة المتسيدة داخل آل رومانوف، وانتهى مصيره الفاجع بالقتل، وصعود رايات الثورة البلشفية الحمراء. إلى حدٍّ ما ربما يشبه الشيخ خضر راسبوتن في صعوده وتأثيره، فهو الأقرب حالياً لصناعة القرار واعتماد قوائم الوزراء وبقية التنفيذيين، يبصم عليها في الأول، كما أن صيته يتصاعد يوماً بعد يوم، بالرغم من أنه يبدو كشخصية شبحية لدى كثير من الذين يتشككون في وجوده حد الخلط أحياناً بينه والشفيع خضر عراب الحكومة كما بات يُعرف. ويفاقم ذلك الغموض فشل مؤشر البحث قوقل في العثور على صورة واضحة للشيخ، يمكن أن تسفر عن ملامحه الكاملة، باستثناء صورة وحيدة ملتقطة بشكلٍ غير احترافي، يرتدي فيها المستشار "جاكيت أزرق غامق وقميص أبيض مخطط تبدو فقط أكمامه"، وعدسة طبية بالكاد تخفي عيوناً مرهقة من السهر والتحديق، وشعر أبيض خفيف، وابتسامة مقتضبة وقورة ثم لا شيء بعد ذلك. سرية وسيرة غامضة وبما أن الشيخ لم يكن معروفاً أيام تدفق أسماء ترشيحات الحكومة الانتقالية، لم يخرج أحد للاعتراض عليه إطلاقاً، فهو إلى اليوم قليل الظهور، كثير الحركة، شديد الحرص على العمل بسرية، ولم تفصح عنه سيرة ذاتية معتمدة على ويكيبيديا، بينما كل ما رشح عنه أنه أحد المُبعدين من الحزب الشيوعي أو المنعتقين لفرط إيمانهم بضرورة التغيير. انتقل الشيخ خضر من سقادي ريفي شندي لدراسة الاقتصاد الزراعي في جامعة الخرطوم، والتقى بحمدوك في الجامعة مطلع الثمانينات تقريباً، لتتخلق بينهما وشائج صداقة ورفقة طويلة ممتدة، بعدها عملا معاً في وزارة المالية إلى قيام الإنقاذ، ولم تكن ثمة بشارة من هذا الانقلاب الذي يناهض قناعاتهما السياسية، فقرر حمدوك الرحيل للالتحاق بمنظمات الأممالمتحدة، وربما لحق به الشيخ خضر الذي لم يتسنَ له لعب أي دور تحت الأضواء الكاشفة طوال تلك السنوات، أو جمعت بينهما بعدها رفقة جديدة في أديس أبابا، العاصمة المطيرة، فأُشيع أن الخضر دخل مجال البزنس من باب خلفي وأصبح أحد رجال الأعمال الذين يتجولون في عدة مدن أفريقية، ومن الصعوبة هنا فك الارتباط بينه ورجل الأعمال الشهير مو إبراهيم صاحب جائزة الحكم الأفريقي الرشيد وأحد رعاة الحكومة الانتقالية، دون الجزم بطبيعة تلك العلاقة، لكن مو الملياردير بائع الهواء أيضاً، ظل يحتفظ بمجموعة من رجال البزنس والاقتصاد حوله، منهم حمدوك وحرمه كما يتردد، وربما كان الشيخ خضر واحداً منهم، أو أن هذا هو السبب الأساسي في اختياره مستشاراً بصلاحيات واسعة لرئيس الوزراء الانتقالي، فضلاً عن حاجة فائضة من القدرات الإدارية المطلوبة والعلاقات العابرة المهمة التي يمتاز بها الشيخ، ودأب على إنجاز المهام الصعبة والمعقدة أيضاً. مهندس الحاجات المهمة طرحت الناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي "دينا خالد"، تدوينة على صفحتها بالفيسبوك تساءلت فيها بالقول: (الشيخ خضر دا منو؟ وليه هو شخصية غامضة وشغّال وظيفة عامة بالدس؟) فردت عليها متداخلة اسمها صوفية محمد بأنها تعرفه، وقالت "لما كنت شغّالة مع د. حمدوك هو كان مديرنا ما بين سنة 2006 – 2008، الشيخ دا كان الكل في الكل"، وأضافت صوفيا دون أن تفصح عن طبيعة ومكان العمل الذي جمعهم، بأنه كان وقتها مهندس كل الحاجات المهمة. بينما تدفقت معلومات أخرى بأنه الشيخ صديق حمدوك وكان من رجال الأعمال غير المعروفين، يحب العمل في الظلال منذها، إلا أن أكثر رواية متداولة تزعم بأن الخضر لم يكن بعيداً عن العمل السياسي ولا عن الانقاذ، لكنه لم ينشط في أيما حزب بعد أن طرد شبح ماركس من ذاكرته، وانتقل للمعسكر الآخر، حيث جرّد نفسه للأعمال الحرة مُستعيناً بخبراته السابقة، ومن ثم انتقل للعمل في منظمة تقدم بعض الاستشارات للبنك الدولي. معركة مع البدوي ثمة دعاية بأن الشيخ خضر لا زال مؤمناً بالنظرية الاشتراكية ولم يتم تعميده ليبرالياً بعد بالكامل، وهو غالباً السبب الذي جعله يخوض معركة حامية الوطيس مع وزير المالية والاقتصاد المُقال إبراهيم البدوي، انتهت بمصرع أحلام الأخير، حد إفشال كل محاولات البدوي في لف كارفتة البنك الدولي على عنق حكومة حمدوك، وانتهى الصدام بمغادرة البدوي مسرح الانتقالية بشكلٍ مباغت وحزين ضمن طاقم الوزراء. وهي رواية رغم انتقائيتها وجدت حظها من التداول داخل أروقة حزب الأمة، إلى درجة الزعم أن الشيخ سعى لإفشال خطط البدوي التحريرية القاسية في الاقتصاد، واستعان بالدكتورة هبة محمد علي المكلفة بأعباء وزارة المالية حالياً لإزاحة الوزير سلفها، لكن الشيخ في مسشتاريته لا يبدو كماركس يؤمن بلا حدٍ أن حالتنا الاجتماعية تتطلب، كضرورة حاسمة؛ ثورة بروليتارية إقصائية، وإنما هو في الواقع أقرب إلى فهم طبيعة الصراع الجديد مع المعسكر الغربي الكاسح، باختصار هو ليبرالي كحمدوك في نسخة الألفية بلا مواربة، وغير مناهض لجماعة الهبوط الناعم التي تنشد سلامة الفترة الانتقالية وتحصينها من ضربات الدولة العميقة، كما يبدو. ولعل ما جعل لرواية الصراع مع البدوي قابلية التصديق خبرا أوردته قناة الحرة الأمريكية على موقعها الإلكتروني عشية استقالة الحكومة، أشارت فيه صراحة إلى أن الشيخ خضر هو الذي سيشغل منصب وزير المالية والتخطيط الاقتصادي. ووصف موقع الحرة الأمريكية، خضر بأنه كبير مستشاري رئيس الوزراء و"على قدر الضوء المسُلّط عليه من بعض الناشطين، فإن هالةً من الغموض تُحيط بالمهام التي يضطلع بها". وهو ما قلل منه المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء فائز السليك الذي اعتبر في حديث ل(السوداني) أن الشيخ خضر هو كبير مستشاري رئيس الوزراء وهو المسؤول عن الأعمال الإدارية والإجرائية، فقط لا أكثر. الكبير أوي من المهم الإشارة إلى أن الشيخ خضر هو أحد أبرز المستشارين في مكتب رئيس الوزراء الذين يقارب عددهم العشرة، ويُعرف بأنه كبيرهم، ويشار إليه أحياناً بأنه كبير الموظفين في مكتب حمدوك، حيث يتحرك في مساحة غير محدودة ويتقدم بثقة مطلقة في خانة صانع الألعاب، منفرداً أحياناً بتسديد الأهداف، وجمع المعلومات ورفد القرارات بتصوراته النافذة حقاً، بل يبدو كثيراً كما لو أنه ظِل حمدوك الذي لا يُرى، دون مغالبة دسيسة الظن بتحركات تختزل فهمه لموقعه ووظيفته في الواقع ب(الكبير أوي) والمُعين على هيمنة رجال أعمال كأنيس حجار وأمين عبد اللطيف وأسامة داؤود ومن وراء الفاخر وآخرين، هيمنتهم على الحكومة وحصائلها بالطبع في سياق سيادة الطبقة الأوليغارشية، إن لم يكن ذلك الادعاء ظالماً ومتجنياً عليه بالمرّة. رئيس في غياب حمدوك كثيراً ما يتصدر اسم الخضر نشرات الأخبار وتصريحات وزارة الإعلام المكتوبة، بل دائماً ما يقوم بتصريف مهام رئيس الحكومة في غيابه، ويلتقي بالوفود الزائرة قبل حمدوك وقبل عبورهم إلى مجلس السيادة، أنظر لبعض مما يقوم به داخل مجلس الوزراء، استقبل الدفعة الأولى من المساعدات التي قدمتها الحكومة المصرية للسودان إبان جائحة "كورونا" في شهر مايو ممثلاً لرئيس الوزراء، كما ظهر إلى جانب حمدوك أثناء طرح مبادرة سودان الخير التي تقدمت بها منظومة الصناعات الدفاعية، فيما ترأس في جلسة سابقة لمجلس الوزراء الاجتماع الخاص بمشروع خطاب الزراعي وعلى يمينه دكتورة هبة، إلى جانب بروز صوته في اجتماع مع لجنة مستوردي الأدوية قبل أسابيع، وهي المرة الوحيدة تقريباً التي يظهر فيها صوته على مقطع فيديو، حين تحدث مع غُرفة المُستوردين قائلاً: "لا نملك الموارد الدولارية الكافية ونسعى بجد لحل مشكلة الدواء"، قالها بتأثر دون أن ينطفئ في صوته حزم رجال الدولة. أكثر من توصيف ولعل الصيغة الأكثر جدلاً متصلة بترويسة للأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء، والتي ظهرت في شكل بطاقة مطبوع عليها اسم الشيخ خضر باللون الأزرق بصفته كبيراً للمستشارين في مكتب حمدوك. وكانت تلك البطاقة لافتة جداً، إذ ظهر فيها اسمه مكتملاً لأول مرة، حال لم يكن الشيخ خضر اسماً مركباً، وهو ما أثار بالمقابل عاصفة من التساؤلات حول طبيعة عمل الرجل داخل المطبخ الوزاري، لأن نشاطه المهول والمنطقة التي يتحرّك فيها تحتمل أكثر من تعريف، دون أن تكون ثمة صفة دستورية مُقيدة للرجل، أو تحد من سُلطاته، وهو على الأرجح ما جعل بعض القوى السياسية تخطب وده وعندما لا تنال منه ما تريد تطارده باللعنات والشائعات، حد اعتباره بأنه يمضي في طريق الفريق طه عثمان مدير مكاتب الرئيس المخلوع، في السيطرة على كل شيء. وهنا ظل الشيخ خضر تحت قصف نيران مكثفة من قِبل الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني وحزب الأمة على حدٍّ سواء، دون أن يُسمَح له بالدفاع عن نفسه، وتعرية الحقائق، أو ربما يكون الرجل ضحية سيناريوهات متخيلة، والمشبك الخاطئ الذي أثرت الحاضنة السياسية أن تعلق عليه خيباتها، وارتضى هو ذلك ليكف الأذى عن صديقه حمدوك. عزمي عبد الرازق