الأحداث المؤسفة التي وقعت بمدينة الجنينة وراحت ضحيتها عشرات الأنفس العزيزة، تتطلب وقفة جادة لدراسة معمقة لظاهرتين خطيرتين نزعم أن الوصول لمعالجتهما سيسهم بشكل كبير على الأقل في تلك النزاعات الدموية العبثية التي ما نفكت تقع بين الحين والاخر في مختلف مناطق دارفور..الأولى هي هذا السلاح المنتشر بكثافة في كافة ربوع دارفور الكبرى، فامتلاك السلاح في هذا الاقليم الشاسع الذي يعادل مساحة دولة فرنسا، يعد ممارسة معتادة ومتوارثة تتناغم مع كل ما هو تقليد ومعتقد وموروث محلي، كما أنه يعتبر أداة من أدوات الزينة عند الرجل، وقد تدرجت عادة حمل السلاح في دارفور من العصا، إلى السكين إلى الفأس إلى الحراب، إلى مجمل السلاح المسمى بالأبيض، وأخيراً السلاح الناري، من بنادق إلى رشاشات إلى قاذفات يدوية وأنواع مختلفة من الاسلحة الثقيلة، وظل حجم السلاح الناري في تزايد مستمر من عام إلى آخر في دارفور، حتى صارت كمياته مهولة، كما ساهم أيضا ظهور الحركات المسلحة في دارفور في زيادة معدلات انتشار السلاح وسهولة الحصول عليه، ونذكر في هذا الصدد سوق السلاح المسمى (ابرم طاقيتك) بمدينة الجنينة الذي كان متخصصاً في بيع وشراء مختلف أنواع الاسلحة، وما لم يتم نزع هذا السلاح من أيدي القبائل والمواطنين فلن تتوقف هذه النزاعات المميتة. والظاهرة الأخرى تتلخص في أن بعض قبائل دارفور معروف عنها انها لظروف تاريخية وبيئية وعملية قبائل مقاتلة وفي ذلك يقال أن قائد وزعيم إحدى هذه القبائل احتج لدى المهدي أو خليفته عبد الله ود تورشين لا أذكر – فقد تقادم العهد على اطلاعي على هذه الرواية أول مرة – قال الزعيم القبلي (الجنة دي صوم وصلاة غلبتنا سوى لينا دواس يدخلنا الجنة)، والواقع أن بعض الصراعات القبلية الطاحنة التي تروح ضحيتها عشرات الأنفس في الغالب تقع لأبسط وأتفه الأسباب وأحيانا بين شخصين وفي أمور شخصية، ولكنها عقلية غزية التي قال شاعرها وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد، فرغم أن الموضوع بسيط وشخصي لكنه يمكن ببساطة أن يجر القبيلة كلها إلى حرب ضروس، وفي ذلك لا شك استرخاص للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ومن هنا فإن البعض يضفي على أزمة دارفور بعداً دينيا يلخصه في استسهال حمل السلاح وسهولة تصويبه على الآخرين، ولهذا تمدد وانداح تراث العنف والقتل وإشاعة الذعر وبث الفوضى، وتعاقبت أجيال الفواجع والمصائب والمحن التي لا تأتي فرادى بل محنة تعقبها فاجعة تليها مصيبة وهكذا دواليك، فدلاليك الحروب والصراعات لم تكف لحظة عن الرزيم في دارفور إلا بالمقدار الزمني الذي يسمح بنقلها إلى مكان آخر، وستظل هذه الكأس دائرة ما ظلت ثقافة الحرب هي السائدة، وثقافة الحرب لا تسود إلا حين تضمر الدولة وتتضخم القبيلة وتغيب قيمة المواطنة وتصبح المليشيات هي من يأخذ الحق والقانون بيده، وعندما تسود العنصرية، ويتوهم مكّن ما أو جماعة ما أنهم الأعلى شأنا من الآخرين، يضطهدونهم ويهمشونهم، فتغيب قيم التعايش والتسامح والتنوع ويستشري البؤس والدمار. ***********