الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، هي وكالة حكومية أمريكية تؤدي دوراً رئيسياً داعماً للسياسة الخارجية الأمريكية، ومهمتها إدارة الدعم المالي والتقني الذي تقدمه حكومة أمريكا، هذا الدعم يجاز عبر الكونغرس وفق أجندة ومهام محددة وذلك بطريقة السياسة الأمريكية، وقد أدت هذه الوكالة أدواراً مهمة في السياسة الأمريكية كما هو الحال في أفغانستان والعراق بعد الحرب ودول أفريقية وآسيوية كثيرة، والسودان من ضمن الدول الخاضعة لهذا التأثير كذلك. قصة الوكالة الأمريكية USAID قصة طويلة، وتطورها وتنوع أهدافها يحتاج لبحث استقصائي دقيق، لكننا هنا بصدد مهمة بسيطة وهي: توضيح نقاط عامة حول حقيقة دعم القوى المدنية السودانية المعارضة من هذه الوكالة، وشرح بسيط حول كيف يعمل هذا الدعم؟ وكيف يؤثر على الواقع السوداني؟ الدعم حين يأتي لدولة في العالم الثالث مثل السودان يكون مقداره حسب أهمية هذه الدولة، وفي العام 2010 مثلاً كان السودان الدولة السادسة من حيث مقدار الاهتمام به من قبل وكالة المساعدات الأمريكية هذه، هذا الدعم يتم عبر شركاء الوكالة العالميين والمحليين، فمثلاً الوكالة تدعم برنامج الأغذية العالمي WFP وتدعم برامج نزع الألغام وغيرها من المهام والبرامج، وهذا المستوى يسمى (المستوى الكبير والواضح للدعم)، وقد يظهر من خلاله وكأن الدعم شيء موضوعي وشفاف؛ ولكن ما حقيقة التفاصيل؟ ما حقيقة المستوى الدقيق لسريان هذا الدعم؟ دعم الوكالة USAID للسودان خلال العام 2021 كان مبلغ 386 مليون دولار، وكانت هناك 700 مليون دولار قد تمت إجازتها أصلاً لدعم الاقتصاد كما يقولون وتم تعليقها بعد 25 أكتوبر، وهو مبلغ ضئيل وتافه طبعاً، بجانب مبالغ أخرى إضافية ببضعة ملايين أو عشراتها في أجندة دعم إنساني، ودعم لبرامج الدعم السلعي، ووعد ب12 مليون دولار خلال الانتخابات وغيرها، كل هذه المساعدات معلنة للسودان بجانب الدعم الذي تقدمه المساعدة الأمريكية للوكالات الأخرى العاملة في السودان، مثل الصليب الأحمر وال FAW والUNDP واليونيسيف وغيرها من البرامج والمنظمات. ما الذي حدث مؤخراً وأثار هذه المسألة؟ في جلسة لجنة العلاقات الخارجية التابعة للكونغرس تحدثت نائبة الوكالة عن دعم بقيمة 100 مليون دولار للقوى المدنية في السودان لدعم الانتقال الديمقراطي والورش والتدريب والتثقيف المدني؛ حديث جاء في معرض مناقشتها مع نواب قصيري النظر يتحدثون في جلسة غير مهمة وفق مقاييس السياسة الأمريكية، لكن حديثها فتح المسألة ككل أمام الرأي العام السوداني، وهنا نأتي لشرح قصة مهمة حول كيف يعمل الدعم الخارجي في السودان. يوجد في السودان مكتب داخلي محلي من سودانيين يتشارك مع موظفي وكالة USAID الرسميين من الأمريكان لإدارة الدعم والتخططيط له، وهذا المكتب مكون من شركاء محليين من السودانيين، وهؤلاء رجال ونساء منظمات سودانية وهم جزء من الطبقة السياسية وغالبهم يعمل في الظل ولا يظهر، ومهمتهم الرئيسية هي: صناعة التبرير اللازم لصرف الدعم، how to justify this funds. فتتم صناعة التبرير عبر ذات أهداف الوكالة الرسمية وهنا فإن (الأعمال القذرة) تتم عبر هؤلاء وبعيداً عن توريط الأمريكان فيها، ومن أمثلة تبرير صرف الدعم تلك الأحاديث الفضفاضة عن تعزيز الديمقراطية، وتحسين وضع النساء، والتثقيف المدني وبناء القدرات.. إلخ، فيتم تقديم ملفات لبرامج وخطط وعلى أساسها تصنع ميزانيات وتقدم تبريرات لصرف الدعم؛ ببساطة مهمة هذا المكتب المحلي هي صناعة مبررات للصرف فقط. ستضحك عزيزي القارئ حين تعلم أن مجرد وجودك في مجتمع المنظمات ومعرفتك بشللياته وقربك منهم ومن مصالحهم هو شرط كافٍ تماماً للحصول على دعم وإليك الطريقة: 1- تصنع خطة لبرنامج محدد مثل تدريب لجان مقاومة على العمل المدني، أو تدريب مجموعات فتيات على أي قضية معينة من قضايا واهتمامات النسويات، تضع خطة لبرنامج تثقيف مدني مثل ما تقوم به منظمة ناشطين تسمي نفسها (المعمل المدني).. الخ أو بعيداً من هذا يمكنك أن تفكر في مقهى مفتوح، ونادٍ للقراءة والكتاب، أو معارض وفعاليات، أو أنشطة تقول فيها تشجيع القيم الديمقراطية وتنفيذ فعاليات ثقافية تدعم التنوع والحريات الشخصية.. الخ. 2- تكتب هذه الخطط في ملفات كبيرة وتجدولها مع ميزانياتها وترفعها للمكتب الداخلي المؤسس أصلاً من نساء ورجال ذوي صلة بأولئك الذين يقدمون الملفات، هذه الفئات تربطها صلات نسب وزواج وقرابة، وصلات أحزاب وشلليات، وصلات صداقات وأعمال، إنها ببساطة قصة من نسميهم: عيال المنظمات. وهؤلاء وعبر الدعم الخارجي والوضع الطبقي وتداخل المصالح يمثلون أهم جماعة ضغط غير وطنية في السودان. 3- عبر هذه البرامج والخطط تتم إجازة دعم محدد، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يفعله مبلغ مليون دولار في بلد فقير مثل السودان!! إنه يقوم بنقلة ضخمة قد تحدث لمنظمة مجتمع مدني، فترفع من أسهمها وتأثيرها المنحاز لاتجاه محدد غير وطني. نحن نعلم عن 300 ألف دولار ذهبت لمقهى محدد مع فعالياته، و90 ألف دولار ذهبت لبرامج معارض ولوحات لفنانين وهميين، وأموال أخرى ذهبت فجأة ولم يعثر عليها المكتب المحلي وصمتت الوكالة عنها، هذه فضائح بسيطة لو خرجت للعلن لكشفت حقيقة عيال المنظمات للسودانيين. ما تحدثت عنه (إيزوبيل كولمان) نائبة الوكالة عن 100 مليون دولار كدعم مجاز للسودان، ولكن السؤال أين الدعم السابق أصلاً؟ وكيف يخطط للدعم الجديد؟ المؤكد أن ملفات كثيرة من عيال المنظمات قد ذهبت للمكتب المحلي ليتم قبولها، وأجندتها واضحة وتدور حول صناعة مدنيين عملاء مصدر رزقهم هذه المنظمات، وعبر هذا الطريق ستتدفق بقية المبالغ وتصرف لتعزز الوضع الطبقي لهذه الشلليات المرتبطة بأحزاب قوى الحرية والتغيير ومنظمات المجتمع المدني. الخلاصة هي: 1- عبر هذه الأموال تتغذى المنظمات والناشطون، ويفتحون البيوت، ويشترون العربات، ويخرجون للمظاهرات، ويقدمون الشرائح الدولية لهواتف شباب سذج يخرجون للموت، ويستأجرون الشقق، ويشترون الكاميرات والهواتف الذكية، وكاميرات الدرون غالية الثمن. ويقدمون المساعدات للحلفاء والأصدقاء، ويتحدثون عن علاج المرضى والمصابين. فكل دولار يدخل السودان يمكنه أن يحدث فارقاً كبيراً. 2- إن مبالغ من مجرد 100 ألف دولار حتى مليون دولار قد تبدو مبالغ صغيرة بالنسبة للميزانيات الضخمة، لذلك يمكن تجنيبها من أي ميزانية سواء من برامج نزع ألغام حتى برامج دعم أي وكالة عالمية أو حتى عبر برامج دعم سلعي؛ سيتم تجنيب هذه المبالغ للتدريب والورش وهي مبالغ ضخمة جداً بالقياس للوضع السوداني الفقير، فمبلغ مثل 500 ألف دولار اليوم هي حوالي 245 مليون جنيه سوداني (مليار بالقديم)؛ وهذا مبلغ ضخم كافٍ لصناعة تغيير جذري في الواقع بعد خصم مبالغ الشقق والعربات والترفيه وتأمين وضع مستقبلي لعيال منظمات منعم جيد التغذية. لقد حدثت ربكة عظيمة حقاً وخوف كبير في دوائر المعارضين السودانيين الليبراليين وعيال المنظمات بسبب حديث (إيزوبيل كولمان) حول ال100 مليون دولار القادمة، فالحديث عن المال والوظائف والكسب دوماً حديث خطير، ولقد لامس وتراً حساساً عندهم (هبش العضم الحي) باللغة الدارجة؛ فقامت الدنيا ولم تقعد لشرح وتفسير وصناعة مبررات لهذا التسريب الرسمي، وسارعت الوكالة لنشر تغريدة لتزيد الطين بلة، فتؤكد حقيقة الدعم الجديد بما يعني أن هناك دعم قديم غير واضح وغير مكشوف!!! هناك واجب أمام الرأي العام السوداني الوطني وهو كشف هؤلاء الانتهازيين ورفضهم وإبعاهم عن المشهد تماماً، وملاحقتهم كانتهازيين يتاجرون بالقضية الوطنية. فكل هذه القصة نموذج لبقية الدعومات الأكثر أهمية من مجتمع مدني غربي، ودول مثل النرويج وهولندا وألمانيا وكندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وغيرها من الهيئات. هناك واجبات مهمة للحكومة وهي: 1- محاسبة قانونية واعتقال وسجن كل من يتلقى أموالاً من هذه المنظمات لصرفها في أجندة تغيير غير وطني فيجب أن يقوم السودان بمنع هذه التدخلات. 2- وضع خطوط واضحة قانونية وأمنية للتعامل مع الUSAID وجميع الوكالات الخارجية مثلما تفعل الدول القوية، وأقول ذلك لأنني أعلم أن قرار طردها تماماً هو القرار السليم كما فعل رئيس بوليفيا إيفو موراليس في العام 2013، فالوكالة الأمريكية وثيقة الصلة بالCIA وتقوم بأنشطة تجسس وتخريب مؤكدة؛ ولكن الطريق نحو ذلك الهدف يبدأ بجعل التعامل الوحيد معها يكون عبر الحكومة وعبر علمها التام بعيداً عن شلليات الناشطين المنعمين جيدي التغذية، أولئك الذين يقتاتون على موائد الدعم الخارجي. صحيفة اليوم التالي