السّفير/جمال محمد ابراهيم (1) وقفت في متابعاتي للبرامج الرّمضانية في قنوات السّودان، خاصّة تلك التي تستضيف مطربين ومطربات، فلفتَ انتباهي غياب الأغنية المنظومة باللغة العربية الفصحى ، وذلك أمر رابني، بل دفعني للنظر في الأسباب. إن كانت اللغة العربية ملمحاً هاماً في مكوّناتنا الثقافة السودانوية ، فهل يكون ذلك تراجع لصالح المكون الثاني في الهوية السودانوية وهو المكون الأفريقي. .؟ أهو انتصار الغابة على الصحراء ، إذا أخذنا بحذر بمقولات "مدرسة الغابة والصحراء". . ؟ وهل يكون مردّ هذا التراجع في الغناء بالعربية الفصحى، نواحٍ تربوية تتصل بتدهور مناهج اللغة العربية في مؤسساتنا التعليمية . . ؟ إنّي لا أرجّح السبب الأول لسبب بدهي ، وهو أن انفصال جنوب السودان، قد أضعف لأسباب موضوعية المكوّنات الأفريقية في الثقافة السودانوية . تراجعت الغابة برمزيتها فلا بدّ من البحث عن سبب آخر، لعلّي أجد إجابة على تساؤلي الثاني . ليس من سبب في ذلك التراجع، إلا ما نرى من ضعفٍ إعترى مناهج اللغة العربية في مؤسساتنا التعليمية. . ! لأضرب لكَ مثلين أو ثلاث تلقي ضوءا على أريد توضيحه، وما دفعني لقبول هذا التبرير الأخير. (2) حين تغنّى الرّاحل عبدالكريم الكابلي بأغنية من أجمل دُرره هيَ "ضنين الوعد"، سمعتُ من بعض القريبين من ذلك المطرب، أنّ المربّي والمُعلم عبدالقادر كرف ثار ثورة مضرية على الشاعر الرّاحل صديق مدثر وهو من نظم القصيدة، يلومه لأن المُنادَى "ضنين" لا يكون مضافاً إلى "الوعد"، بل مجروراً بحرف الجرِّ الباءِ ، فيكون الصواب أن يقول الشاعر "يا ضنيناً بالوعدِ" وليسَ "ضنين الوعد". لم يتردّد الرّاحل الكابلي في تسجيلات لاحقة لتلك الأغنية فاعتمد التعديل الذي جاء أستاذنا المُربي كرف. وللمتابعين لمسيرة الغناء السوداني، فالملاحظ أن عقد الستينات كان عقد الغناء السوداني الفصيح بامتياز، وإن سبقته تجارب لا ينبغي تناسيها ، بل من الواجب الاحتفاء بها . . (3) ثمّة مطرب بزغَ نجمه في الثلاثينات من القرن العشرين، إسمه "فضل المولى زنقار" امتلك ذلك الفتى المغني قدرة عالية في انتقاء ما يرغب في تلحينه أو أدائه، من القصائد المنظومة بالعربية الفصحى. سبقه في المجال الشاعر الفنان خليل فرح كاشف ، إلا أنّ خليلاً في اختياره من الشّعر العربي، أنشد ولم يخضع القصيد للحن تعالجه ألاتٌ موسيقية. لكن "زنقار" اختار قصيدتين من شعر الشاعر اللبناني "إلياس فرحات" إبن "كفر شيما"، في جبل لبنان، والذي كان يقيم وقتها في البرازيل. ليس واضحاً كيف وصلت القصيدة للفتى "زنقار" ، لكنه أبدع في تلحينها وأدائها بصوت " القرار" الغليظ لا بجوابه الأنثوي ، فكسبتْ تلك الأغنية شهرة واسعة في أنحاء العالم العربي، خاصّة وأنّ "زنقار" قام بتسجيلها في اسطوانة حجرية لدى شركة سورية، وسوريا وقتذاك تشمل لبنان الحالية . تلك هي أغنية "عروس الروض". وأعيدك أيها الفتى لتراجع ما كتب الأكاديمي الموسيقار د. كمال يوسف في دراسة له بعنوان شعر الفصحى والموسيقى والغناء فى السودان، إذ أشار إلى أن "زنقار" قام بتسجيلها عام 1939م ، في اسطوانة لشركة "سودوا" في سوريا، (والأرجّح أن تكون بيروت): يا عَروسَ الروضِ يا ذاتَ الجَناحْ يا حمَامَه سافري مصحوبة عند الصباحْ بالسلامَه واحملي شوقَ محبٍ ذي جراحْ وهُيامَه سافري مِن قبل يشتدّ الهجيْر بالنزوحِ واسبحي ما بينَ امواج الأثيرْ مثل روحي فأذا لاحَ لكِ الرّوضُ النّضيرْ فاستريحي (4) ثم يكتب صحفي سعود ي، إسمه "سعد الحميدين"، في صحيفة الرياض السّعودية بتاريخ 8 نوفمبر 2014م، موثقاً مسيرة هذه القصيدة ومثبتاً أنّ أوّل من تغنّى بقصيدة الياس فرحات هذي، هو المطرب السّوداني "فضل المولى زنقار" في ثلاثينات القرن العشرين . ثم تغنّى بها أيضاً في السودان العديد من المطربين ولكنها اشتهرت أكثرعند المطرب الرّاحل عبد العزيز محمد داؤود، بصوت الترعيْد المُحبّب عنده، والترعيد وصف ابن سينا للصوت الغليظ . بعد ذلك تغنّى بها في مصر، المطرب عبد العزيز السيّد. (5) لقد أذهلتني هذه المعلومات عن ذلك الفتى العبقريّ ، بقدراته تلك، وفي بيئة لا أعدّها محفّزة لتقديم إبداعٍ بهذا المستوى الرّفيع. كان أغلب الناس يحسبونها من غناء أهل الحجاز أو أهل العراق . . لقد طارت شهرة أغنية "عروس الروض" بصوتِ الفتى السوداني "زنقار"، فبلغت أرجاء الوطن العربي. التقطها في الحجاز مُغنٍ عبقريّ في مدينة جدة، إسمه "حسن جاوَة" ومنحها روح ألحان الحِجاز، وعنهُ تغنّى بها في سنواتٍ لاحقة، بعضُ كبار المطربين السعوديين ، منهم "طلال المدّاح" و"محمد عبدُه" و"عبادي الجوهر". لكن ما يؤكد حُسن انتقاء "زنقار" لقصائده التي تغنّى بها ، هو تلحينه أغنية ثانية للشاعر اللبناني"الياس فرحات"، عنوانها "حبيبي يا حبيبي"، تغنّى بها بلحنٍ هاديء وبصوت "القرار" الذّكوري الغليظ، يصاحبه في أدائها، كورس وعازف على آلة الكمان، لعله "وهبة" والد لاعب المريخ الأشهر في سنوات السبعينات بشرى وهبة. . (6) إن أغنية "عروس الرّوض"، وقد تغنّى بها مطرب سوداني في أواخر ثلاثينات القرن العشرين، ومن نظم شاعر لبناني مهجري، تطبع أسطوانة في دمشق وربما بيروت، فتخرج من الخرطوم ، أحدثت اختراقاً غبر مسبوق إلى عواصم عربية أخرى مثل القاهرةودمشقوجدة وبغداد، فتأمل عزيزي القاريء أي صيت كانت عليه الأغنية السودانية وقتذاك. . أعجب أن لا أرى أغنية سودانية بعدها، تُحدث اختراقاً شبيهاً، فيما الاتصال والتواصل صار أيسَر هذه الآونة. . ! في حكاية تردّدتْ ولا أجد لها توثيقا مؤكّداً، أنّ "فضل المولى زنقار" كان في القاهرة وتغنّى بقصيدة "عروس الرّوض" في صالون الفنانة المصرية الصبية في تلكم السنوات "زوزو ماضي"(1915م-1982م) ، فزاد في ختام الأغنية "سيكوينسيا" في لغة الموسيقيين، وهي ما نسمّيه في السودان "الكَسْرَة"، مقطعاً بلغةٍ عامية يقول : "يا حلاة زوزو، الله فوق زوزو.. !! " وذلك حين هبّت تلك الممثلة وهي صبية في عقدها الثاني، لترقص رقصاً بديعاً، على إيقاع الأغنية. . لنا أن نرى في أنتقاء تلك القصيدة، ما يعزّز ذائقة "زنقار" البديعة، وتذوّقه للقصيد العربي . وأقول لك: إنّ اختياره بعد ذلك، قصيدة للشّاعر السّوداني الصاغ "محمود أبوبكر" المشهور ب"النسر"، وعنوانها "إيه يا مولاي إيه" ، وهي من ألحان الموسيقار السوداني إسماعيل عبد المعين، لقيتْ حظاً واسعاً من الشهرة، حين تغنّى بها في مطلع أربعينات القرن العشرين. لقد أثبت كلّ ذلك، الباحث السوداني الموثق صديقنا الإستاذ معاوية يس في سفره القيّم "من تاريخ الغناء والموسيقى في السّودان"، الصادر عن مركز عبدالكريم ميرغني بأم درمان في عام 2012م. (7) في مطالعتي لدراسة الدكتور كمال يوسف، المحاضر في كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان، عن شعر الفصحى والغناء في السودان، أوضح أن غناء مطربنا "زنقار" ، يقع ضمن "المدرسة الفنية الأولى" في الغناء السوداني وفق تصنيف اعتمده الموسيقار الأكاديمي السوداني الكبير "الفاتح الطاهر"، وتعتبر هىَ الأساس الذى قامت عليه ثقافة السودان الموسيقية الحديثة، والتي تتمدّد بطول الحزام السوداني من سواحل البحر الأحمر وحتى سواحل الأطلسي . . إنّ المطرب السوداني "زنقار" أحدث اختراقاً بغناءٍ يحمل طابعاً سودانياً ، في أنحاء الوطن العربي ، بقصيدة نظمها لبناني ، فوصلت القصيدة، وإن لم يصل لحنها كاملا، إلى الحجاز والشام ومصر. من المُحزن أن لا يحفظ التاريخ ذلك الحقّ الأدبي في نشر تلك القصيدة للياس فرحات بصوت مطرب سودانيٍّ شاب رحل مغدوراً في عشريناته، إسمه "فضل المولى زنقار". . (8) ما أشدّ عُجبي من مطربينا الذين أمتعونا بغناءٍ وتطريبٍ جميل طيلة أمسيات شهر الصيام، غير أنّ معظمهم تجنّب التغنّي بالقصائد المنظومة بالفصحى. كان عقد الستينات في السودان محتشداً بالغناء الفصيح، لكنه فيما نرى قد تراجع تراجعاً يعكس زهداً في مكوّن من أهم مكوّنات الثقافة السودانية . حتى في تذكّر مطربين رحلوا ، ردّد شباب المطربين أغانيهم، غير أنّا لم نسمع منهم من ذكّرنا أنّ لابن زيدون قصيداً تغنّى به التاج مصطفى ، أو أنّ للكابلي قصيداً من نظم عباس محمود العقاد، أوأنَّ لزيدان ابراهيم قصيداً من نظم ابراهيم ناجي، أو أنّ لحمد الريح قصيداً من نظم نزار قباني. . يبقى سؤال يلحّ عليّ أن يسأل: ترى هل للسياسة ما يبرّر ه كلّ ذا الزهد البائن. . ؟