تفرس الوجوه الموجودة داخل مقر الاممالمتحدة فى نييورك كان يقود الى حقيقة مؤلمة مفادها ان السودان بثقله السياسي والتاريخي وبنجومية بعثته خاطفة الاضواء (غريب الوجه واليد واللسان) داخل وظائف وعمالة المنظمة الدولية. لاتكاد تجد سودانيا واحدا يعمل فى الوظائف المتقدمة داخل المنظمة الدولية ولا تتشرف بمصادفة اي وجه اسمر من بلادي حتى فى العمالة الموجودة على المداخل والمخارج او فى غرف الترجمة او مكاتب الموظفين او حتى سكرتارية الامين العام للامم المتحدة. النجومية الطاغية لبعثة السودان بالاممالمتحدة بين الوفود الدائمة هناك لا تغذى فى مخيلة المراقب ان يكون السودانيون بعيدين عن وظائف الاممالمتحدة و الاختراقات التى تحققها البعثة فى اسقاط المشروعات المناهضة للسودان تضعك فى احساس دائم بان الاممالمتحدة خلية تمور بالسودانيين فى الداخل، ولولا ذلك فكيف يتسنى للبعثة الحصول على كثير من المعلومات التى تؤدي فى النهاية الى ادارة العمل الدبلوماسي بما يحقق مصالح البلاد. ----------- الصور المعلقة على جدران الاممالمتحدة والتى تحمل صوراً لرؤساء الجمعية العامة للامم المتحدة او الامناء العامين تخلو من صورة واحدة لسوداني تقلد هذا الشرف الدولي وهو امر يحمل كثيرا من لواعج الحزن والاسى ويضع الدبلوماسية السودانية امام اختبار صعب يتطلب كثيرا من الجهود. الوسطاء لحل قضايانا كانوا هم من تعرفت على صورهم داخل جدران المنظمة الدولية ، الامر الذى عمق فى نفسي الاحساس بالحسرة على بلد بقيمة السودان فشل حتى الآن فى تعليق صورة لدبلوماسي وطني فى جدران الاممالمتحدة، فجدران الاممالمتحدة هذه تحتفي بصور كثيرة تمثل فى حقيقة الامر توقيعات جدارة تحمل حضارات وتميز البلدان. من لهم علاقة بالسودان فى هذا الجدران جاؤونا وسطاء لحل قضايا سودانية، هذا كل رصيدنا من الجدران الذى يمثل (حائط مبكى) لمثلي من السودانيين الغرباء فى هذا المحفل المهم. وجدت بينج رئيس مفوضية الاتحاد الافريقي وسالم محمد احمد سالم كبير الوسطاء الافارقة لحل قضية دارفور ورفيقه يان الياسون الذى وقع على تاريخ الوساطة الدولية فى بلادي وآخرين عملوا فى رئاسة الجمعية العامة للامم المتحدة ولكني لم اجد دبلوماسيا سودانيا وثقته جدران الاممالمتحدة باحتفاء يشرح الصدر. غير ان افتقادي للوجه السوداني داخل عمالة الاممالمتحدة فسر لى بكثير من التبيان اسباب غيابنا عن هذه الجدران، فكيف سنقود العمل فى المنظمة الدولية طالما كان كادرنا الوطني بعيدا عن اسرارها وكواليسها وملفاتها الملغومة بلعبة الاجندة والمصالح. احد الدبلوماسيين العرب ذكرني بمساجلة تمت بين دبلوماسي عربي نالت بلاده شرفا كبيرا فى قيادة الاممالمتحدة وبين سياسي افريقي لم يستغرب كثافة (عمالة) الدولة العربية فى المنظمة الدولية، من واقع تنسم احد مواطنيها لمنصب رفيع فى المنظمة الدولية. رد الدبلوماسي العربي على السياسي الافريقي يختزل كثيرا من اسباب غيابنا عن القيادة فى الاممالمتحدة فقد اكتفى بالقول: هؤلاء هم الذين جاؤوا بالشخصية الرفيعة وليس العكس. وبعيدا عن افتقادي للسودانيين فى وظائف المنظمة الدولية وحسرتي على جدران الاممالمتحدة الذى حولته الى (حائط مبكى) فان الدول التى تنال عضوية مجلس الامن دائما ما تكون ذات وجود على مستوى الوظائف الصغرى والمهن الاخرى داخل الاممالمتحدة. الموظفون الصغار والقيادات الوسيطة والعليا داخل المنظمة الدولية هي من يحصن البلد المعني من المؤامرات ويدير له لعبة المصالح ويسرب الاسرار ويرصد التحركات ويضع الخطط والاستراتيجيات ولكنا بعيدون تماما على الرغم من ثقلنا فى اروقة المنظمة الدولية. احد الدبلوماسيين الافارقة وفى مسعاه لتأكيد ما ذهبت اليه من تقديس الدول لمبدأ الاحتفاظ بعنصر داخل كل مبنى وموقع ولجنة ومنشط داخل المنظمة الدولية دلف بي الى قاعة كانت تجتمع بها وفود الدول المساهمة بجنود فى عمليات حفظ السلام فى العالم،الخطوط العريضة للاجتماع كانت غير منسجمة تماما مع وجود الدبلوماسية العربية (الوسيمة) التى تعرفنا عليها ففهمت الرسالة، وكل ما فى الامر ان بلادها اقحمتها بمشاركة شبه رمزية حتى تحتفظ بمقعد فى اجتماعات هذه الدول. بلد شقيق ظل مثار اعجاب اصدقائه وحلفائه رفد لجان الاممالمتحدة بعدد من الموظفين وعزز وجوده داخل عمالة المنظمة الدولية لانه يخطط ومنذ اكثر من عامين للترشح الى عضوية مجلس الامن فى العام 2010، انه التخطيط الذى سيفضي حتما الى نتائج ايجابية سريعة، إذ ان التغلغل فى مسام المنظمة الدولية امر مهم للالمام بكثير من التفاصيل المؤسسة التى تعين البلدان على مواجهة المخاطر. فالدول حسب ما يؤكد لى دبلوماسيون فى الاممالمتحدة ترصد كثيرا من الميزانيات فى مسعاها لتوظيف ابنائها فى مواقع مهمة داخل الاممالمتحدة وتدير هذا الامر باهتمام ينسجم مع تطلعاتها للقيادة والريادة داخل المنظمة الدولية، وكثير من الشواهد التى اطلعت عليها تقول ان الدول الاعضاء بالجمعية العامة للامم المتحدة لا تؤمن ب(الصدفة) وانما تجتهد فى مساحة اللعب الدبلوماسي لتحصيل اهدافها عبر الحاق مواطنيها بوظائف الاممالمتحدة. سياحتي الباحثة عن (وجه اعرفه) داخل المنظمة الدولية من غير اعضاء البعثة الدبلوماسية الموجودين فى اعمال اللجان احاطني باحساس اضافى من الغربة ، وجعلني كمن يبحث عن (ابرة) فى كومة قش،السودان بكل مزاياه الاقتصادية والجغرافية والسياسية يكلفنى كل هذا البحث المضني، فالواقع يقول اننا عمليا نجحنا فى كسب خبطة دبلوماسية كبيرة توجتنا على قيادة مجموعة ال(77) والصين واسقطنا كثيرا من المشروعات التى تلبي اجندة دول معادية ، فالسودان كما تعلمون يرأس 133 دولة داخل الجمعية العامة للامم المتحدة، وطفقت اتساءل كيف تحقق ذلك واكرر السؤال: اين السودانيون داخل وظائف المنظمة الدولية؟. رحلة البحث المضنية عن ملامح السودان فى اروقة المنظمة الدولية امتدت حتى السوق المصغرة داخل مقر الاممالمتحدة التى تعرض فيها الدول كثيرا من المقتنيات والتراث وصدقوني فانني لم اجد اي اثر لبلادنا هناك ولا ادري كيف يتسنى لدولة تنظيم معرض دولي لمنتجات الغير داخل بلادها وتفشل فى ان تسوق او تعرض منتجاتها فى (دكان) صغير داخل الاممالمتحدة، عاجلت المسؤول عن المتجر بسؤالي عن علم السودان فحمدت الله حينما وجدته متوافرا ،فلقد علمت من احد الدبلوماسيين داخل البعثة السودانية فى الاممالمتحدة انه دائم التردد على هذا المتجر للاطمئنان على وجود العلم السوداني، هذه الافادة اثلجت صدري كثيرا،ولم ابارح المكان قبل ان اشترى علما وامضي فى رحلتي القاصدة للبحث عن كل ما هو سوداني. دوامة الاسى التى انتابتني ظلت ملازمة لى كالظل تماما وانا اتفرس اللوحات الموجودة على جدران المنظمة الدولية ولا اكاد اجد للسودان اثرا عليها ، اشواق البحث عن الوطن تناوبت على مزاج مفعم بالاستياء من هذا الفضاء الدولي الذى لم يوثق لابناء جلدتي رغم ما فيهم من عظمة وتميز، ذاكرتي التى باتت تطوف باحتفاء بالغ بافراد بعثة بلادي هناك قادتني لاستعراض كثير من الانجازات التى حققتها الدبوماسية السودانية فى نيويورك،ويكفي ان الخرطوم بدأت الآن فى ترويض المجتمع الدولي على الرغم من شراسة المواجهة داخل المنظمة الدولية، ولكن كل هذا لم يعصمني من الاسى ، وبينما انا اتنقل من زاوية الى اخرى ومن ركن الى جدران لفت انتباهي صندوق زجاجي عليه إناء (يشبهنا) ملامحه سمراء وبها عبق تاريخنا الخالد وتراثنا التليد وما ان وقفت امامه حتى ملأني بالفخر وبدد عن افقي غيوم الاسى ، فلقد كان القابع فى هذا المربع الزجاجي عبارة عن إناء فخاري من الحضارة المروية عمره 400 سنة اهداه الرئيس عمر البشير للامم المتحدة فى العام 2004. هذا الإناء الفخاري الوسيم كان هو حامل الجنسية السودانية الوحيد بين جدران الاممالمتحدة وهو امررغم انعدام السودانيين هناك، يضاعف سعادة المرء من واقع انه اضاف مزيدا من التميز لهذا البلد الطيب. الملاحظ ان القيمة المعنوية تنخفض لكثير من (المأثورات) التى منحتها الدول كهدايا للامم المتحدة وفى ذلك محاولة للتغطية بالمال على فرق الحضارات ،لكن المال لايصنع الحضارة مثلما هو معلوم لذا فقد حمل الإناء الفخاري المروي تفصيلا لكثير من القيم والرسوخ فى قلب الحضارة الانسانية لشعب السودان. جدران المنظمة الدولية من الداخل تحولت الى متحف للتاريخ الطبيعي بعد ان حمل خلاصة الحضارات وكم كان رائعا ان اجد كسوة الكعبة التى قدمتها الحكومة السعودية ضمن عدد من المقتنيات العربية فى هذا المحفل الدولي.ويمكن القول ان الهدايا العربية والافريقية تميزت بقدر عال من الرسوخ فى قلب حضارات العالم. عموما (قصة القلة الوحيدة ) تصلح لان تكون مدخلا لدبلوماسيتنا حتى تعيد النظر فى انعدام الوجود السوداني وسط عمالة الاممالمتحدة بما يمهد الطريق الى قيادة العالم وهو امر يقتضي عملا جادا حتى نرى صور القيادات السودانية تملا جدران المنظمة الدولية ونحتفل بهذا الوطن فى ريادة مجلس الامن والاممالمتحدة، ربما... محمد عبد القادر :الراي العام