ظلت الأزمة الاقتصادية العالمية أكبر شاغل لكل العالم في هذه الايام، ولما لم يكن السودان بمعزل عن آثارها، فقد اعترف بذلك وزير المالية بالرغم من خفيف البعض لآثارها على السودان بحكم ارتباطه غير الوثيق بالعالم الخارجي ماليا إلا في نطاق محدود. ويرى البعض أن الوقت قد حان لطرح النظرية المالية الإسلامية بديلا للنظرية الرأسمالية التي توالت عليها الصفعات بعد أفول نجم النظرية الاشتراكية والأزمة المالية الحالية حدت بالبعض من الغربيين الى اللجوء إلى النظرية الإسلامية، رغم عدم قناعة الكثيرين من أهل الغرب بها أو نتيجة لتخوفهم من اعتمادها على الاقتصاد الحقيقي، الأمر الذي عجل بتفاقم الأزمة الحالية وتسارعها نحو مصب الخسارة، مما أدى الى انهيار العديد من المؤسسات المالية بالغرب لاسيما الأمريكية، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المضمار هو: هل النظرية الإسلامية مؤهلة لتكون هي البديل للنظام الرأسمالي؟ وماذا فعل العالم الإسلامي من أجل عرض التجربة المالية الإسلامية؟ فمن خلال المتابعة لما طرح في العديد من المنتديات والندوات، لحظت ثمة تضاربا أو تقاطعات عن آثار الأزمة العالمية على السودان، فهناك من خفف من آثارها عليه ودعا لانتهاز الأزمة وما يترتب عليها من هجرة لأموال المستثمرين العرب بالغرب التي تصل إلى ترليون دولار، وهناك من أقرَّ بتأثر السودان بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نتيجة لانخفاض اسعار النفط عالميا أو لخفض المعونات والقروض والمنح للسودان، او المطالبة بالدين على السودان، أو عدم إعفاء السودان منه. واكثر ما أثار جدلا في اليومين الماضيين تصريحات عبد الرحيم حمدي في الندوة التي نظمتها وزارة المالية بالتعاون مع مجلس الوزراء بقاعة الصداقة التي طالب فيها بالتلاعب في سعر الصرف. وابان أن التضخم الحالي غير حقيقي. وأشار الى ضعف العون الخارجي خلال ال «50» عاما الماضية، وقال إن معظم الدعم الذي يأتي من الدول العربية والصناديق العربية تصل نسبته الى 60%. ودعا الى التوسع في نظام الاستدانة. وقال لا يجب الانشغال بقضية الديون الخارجية والا نتحكم فى معدل التضخم، وقال نحن الآن في كارثة ولا يمكن أن نعمل على تثبيت الاقتصاد فى ظل هذه الظروف، داعيا الى اعمال شراكة مع دول الخليج والصين وتركيا وماليزيا وتكوين حلف، علاوة على منحهم كل محفزات الاستثمار، بالإضافة الى جذب استثمارات مالية عاجلة، واقترح أيضاً إصدار أوراق مالية بأرباح عالية والسماح بالتلاعب بسعر الصرف لصالح جذب الاستثمار، والمساهمة في معالجة وضع الميزانية التي أشار إلى أنها الآن في ورطة، مستدركاً أن ذلك يمكن أن يؤدي لطرح سؤال للتأثير عن الصادرات، لكننا نقول أين هي الصادرات؟ غير أن وزير الطاقة الزبير أحمد الحسن اعترض على تحرير سعر الصرف والتضخم، مبيناً أنها سياسات ادت للاستقرار الاقتصادي الذي يشهده السودان حالياً، منبهاً الى أن التضخم يؤثر على الفقراء، ودعا لعدم الاستعجال في إقرار سياسات اقتصادية بشأن أثر الأزمة المالية على السودان والتريث في الامر. واختلف وزير المالية الاسبق عبد الوهاب عثمان مع حديث حمدى في عدم مراعاة سعر الصرف والتضخم، منبهاً الى أن عدم الاستقرار الاقتصادي يؤدي لهروب المستثمرين. ويرى الخبير الاقتصادي محمد ابراهيم كبج الذي استفسرته عما جرى على لسان حمدي، فقال إنه مع استمرار تدني العملة السودانية أمام الدولار، وأن تحسين الجنيه السوداني أمام الدولار أضر بالخزينة العامة، حيث انخفضت قيمة الايرادات البترولية وقلت عائدات الصادرات غير البترولية، مما قاد لعدم ارتفاع القوة الشرائية للجنيه بالسوق وزيادة التضخم، كما أن انخفاض سعر الدولار شجع الواردات، مما أدى لخلل في الميزان التجاري في السودان الذي وصفه بالسالب والمتوقف في حدود 2 مليار دولار سنويا، مما ساعد على الاستيراد والحاق الضرر بالصادرات. وأرجع السبب الرئيسي في الأزمة المالية العالمية، لانعدام الوازع الأخلاقي نتيجة لتفشي أمراض الربا والجشع، وأن السبب الأكبر في تفاقم أزمة الدين هو وجود المشتقات وهي ادوات «أوراق أو ديون» مالية تعتمد على قيمة أصول مالية اخرى، وهي منفصلة خطوتين عن الأصول الحقيقية التي يعكسها النشاط الواقعي في الاقتصاد الحقيقي، ومن أمثلتها تجارة العقود المستقبلية والخيارات ومؤشرات البورصات. وقال إن المشتقات حولت الأسواق المالية إلى مخلوق أكبر من حجمه ولا تسندها موارد مالية. وابان أن علاج هذه المشكلة لا بد أن يكون جذريا بتحريم بيع الدين، وألا يتم بيع ما لا يُملك، والابتعاد عن الربا والجشع واختفاء سعر الفائدة الذي بغيابه لن تقوم للربا قائمة، مع ضرورة النظرة الميسرة التي ينادي بها الإسلام، وأن يستوي الطرفان في المخاطرة. ويرى اقتصاديون ان الشفافية والمصداقية والاقتصاد المبني على أرقام حقيقية التي نادى لها حمدي التي يفتقر إليها الاقتصاد الرأسمالي لا تتوفر إذا ما أخذت المالية بنصيحته في تلك الندوة بالتلاعب في سعر الصرف، قائلين إن دعوة حمدي إذاتم الأخذ بها ووجدت أذنا صاغية ربما أدت لاستقطاب بعض روؤس المال الأجنبية للبلاد لكن سرعان ما سيتكشف لهم عدم المصداقية في سعر الصرف، وأن سعره أقل مما هو عليه، وعندها سيواجه المستثمرون أوضاعا حرجة كما جاء على لسان بعض أهل الاقتصاد بالبلاد. وقال حمدي في ندوة اخرى ايضا إن الغرب يروج لبعض إجراءات الإصلاح المصرفي، منها بسط مزيد من الشفافية وتشديد الرقابة وأسس التنظيم ومكافحة فساد مؤسسات التقييم، والعودة إلى قواعد التسليف التقليدي التي تقوم على اساس أعرف عميلك ولا تقرضه اكثر مما لا يمكنه تسديده، بجانب استعمال النماذج الحسابية. وقال بعض الاقتصاديين إن هذه الإجراءات هل ستجد حظها من القبول إذا ما تم التلاعب في سعر الصرف كما دعا حمدي نفسه بالأمس؟ ودعا حمدي الدولة لضمان الودائع، وقال إن أساسيات وآليات الفقه الإسلامي تمنع بالضرورة حدوث مثل هذه الأزمات، وأن النظام المصرفي الإسلامي هو البديل للنظام الرأسمالي. ويقول بعضهم ربما اراد حمدى فى حديثه المزاوجة بين النظام الرأسمالى والنظام الاسلامى، وذلك لجذب المزيد من الاستثمارات الى البلاد، قائلين إن غالبية المتأثرين من المستثمرين عالمياً لديهم قناعة كاملة بالنظام الرأسمالى وأنه مهما اصابه وهن فإنه عائد مهما طال الزمن. ولذلك يبرر البعض دعوة حمدى ويقولون ان الاهم من ذلك هو تقوية النظام الاسلامى الذى به اشكاليات كثيرة فى التطبيق. ويقول آخرون انه على الرغم من إجماع الجميع على النظام المصرفي الإسلامي وكونه البديل الناجع للنظام الرأسمالي، إلا أنه لم يسلم من سهام نقدهم من حيث الممارسة النظرية والمنهجية، فيا ترى هل ستلتقط الدول الإسلامية قفاز المبادرة بطرح النظام المصرفي الإسلامي بديلا عن قوة واقتناع؟ أم سيبقى ما نادى به البعض مجرد نظريات لا تغادر باحات المنتديات؟