إبقاء السودان في قائمة الإرهاب.. ردة فعل أمريكية لقرار البشير بمنع التفاوض مع القطاع..توقعات بإحناء الظهر للعاصفة وانقسام في الموقف الرسمي حول القرار (2047) ظلت العلاقات السودانية الأمريكية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي لغزًا محيرًا، يعجز كبار المحللين السياسيين وجهابذة الدبلوماسية عن فك شفرته ومعرفة خط سير هذه العلاقات المأزومة، فهي تارة تمضي نحو الأمام بخطى بطيئة ومتثاقلة وتارة أخرى تتراجع إلى مربع المواجهة والشد والجذب وحدة الاستقطاب، حيث ظلت مضطربة يشوبها التوتر والتعقيد المفتعل منذ استيلاء الجيش على السلطة في «30» يونيو «1989» وبروز الدكتور حسن الترابي كراعٍ ومدبر للانقلاب الذي أطاح حكومة الصادق المهدي في ذلك التاريخ... لا جدال في أن هناك قائمة من المطلوبات الأمريكية من حكومة السودان بعضها ظاهر أكدته تصريحات المسؤولين في لحظات غضب إزاء الصلف الأمريكي وبعضها الآخر مستتر كشفت عنه بعض التسريبات الإعلامية. لقاء كرتي وكيري لكن قبل الخوض في قائمة المطلوبات الأمريكية من حكومة السودان سواء التي تمت الاستجابة لها أو التي ما زالت تنتظر، دعونا نتوقف قليلاً عند اللقاء النادر الذي تم بين وزيري خارجية البلدين علي كرتي، وجون كيري في السادس والعشرين من الشهر المنصرم، بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والحماس الذي أبداه كيري في تحسين العلاقات بين الخرطوم وواشنطون، وصولاً إلى التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، ثم الصفعة الأمريكية الجديدة على خد الخرطوم بإبقاء السودان على قائمة الدول الداعمة للإرهاب..!!! أجندة اللقاء في 26/5 الماضي تناقلت وسائل الإعلام المحلية والدولية أنباء عن لقاء نادر جرى بين وزير خارجية الولاياتالمتحدة جون كيري ونظيره السوداني علي كرتي، وبحث اللقاء تحسين العلاقات بين الخرطوم وواشنطون والعمل على تطبيعها، كما تناول اللقاء، وهذا هو بيت القصيد، العقبات التي تقف أمام الحوار مع قطاع الشمال، وإزالة التوتر مع دولة الجنوب، وتداعيات الهجوم الذي شنته الجبهة الثورية وقطاع الشمال على أبو كرشولا وانعكاسات ذلك على التفاوض مع القطاع الذي توليه الولاياتالمتحدةالأمريكية اهتمامًا خاصًا، وتلقي بكل ثقلها في الضغط على الخرطوم وإرغامها على التفاوض معه برعاية دولية تستمد شرعيتها من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2047... التوقيت والدلالات إن كانت ثمة ملاحظة تلفت الأنظار من حيث الدلالة والتوقيت والمغزى لهذا اللقاء النادر الذي جمع بين كرتي وكيري يمكن القول إنه من حيث التوقيت أن اللقاء جاء في وقت سُد فيه الطريق تمامًا أمام المفاوضات بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال بزعامة مالك عقار على خلفية الهجوم على أبو كرشولا والذي شارك فيه قطاع الشمال المدعوم من حكومة الجنوب، مما يعني أن لقاء كيري جاء لتخفيف الضغط على قطاع الشمال وتليين مواقف الحكومة السودانية ودفعها وتحفيزها لاستئناف الحوار مع قطاع الشمال وتجاوز خطيئته في أبو كرشولا، ولعلنا هنا نلاحظ السياسة الأمريكية التي درجت عليها واشنطون في تعاملها مع الخرطوم وهي سياسة «العصا والجزرة»، فجون كيري في ذلك اللقاء قدم الجزرة لقائد ربان سفينة الدبلوماسية السودانية على كرتي وهي تحسين العلاقات بين البلدين وصولاً للتطبيع الكامل والتذكير بالحوافز الأمريكية، وهو أمر كم كان ولا يزال يسيل له لعاب الخرطوم، وكذلك العمل على إزالة التوتر مع جوبا لاستقرار المنطقة، وحث جوبا على إيقاف دعمها لمتمردي الجبهة الثورية وقطاع الشمال، وهذه كلها أشياء تريدها الخرطوم وتسعى لها بشدة... لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟! حديث الرئيس عن قُطاع الطرق بعد يوم من اللقاء بين كيري وكرتي، تمكَّنت القوات المسلحة من تحرير أبو كرشولا، وجاءت كلمات خطاب الرئيس البشير بهذه المناسبة كالرصاص قوة وتفجرًا، قاطعًا بعدم التفاوض مع «الخونة والمأجورين، والعملاء» في إشارة واضحة لقطاع الشمال والجبهة الثورية بسبب ما ارتكباه من تقتيل وتشريد للمواطنين العزل في أبو كرشولا والرهد... ولا شك أن الموقف الذي أعلنه الرئيس البشير أزعج الأمريكان بشكل واضح من زاوية كونه يتعارض بشكل عنيف مع رغبتهم في استئناف الحوار مع قطاع الشمال، ويتقاطع بصورة أكثر وضوحًا مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2047 الذي يلزم الحكومة السودانية بالحوار مع قطاع الشمال من حيث انتهى التفاوض والاتفاق بين مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع ورئيس القطاع مالك عقار. أول ردة فعل أمريكية وفي تطور جديد للأحداث التي سبقت الإشارة إليها، جاء قرار وزارة الخارجية الأمريكية بإبقاء السودان على قائمة الإرهاب، وهي خطوة تعد أول رد فعل أمريكي على قرار الرئيس البشير بوقف التفاوض مع قطاع الشمال، وهي خطوة مساندة وداعمة للقطاع في مواجهة الحكومة السودانية التي يُتوقع أن ترضخ لهذه الضغوط الأمريكية وتجلس للتفاوض مع «الخونة والمارقين»... إذن المراقب السياسي الذي ينظر إلى هذه الخطوة الأمريكية يدرك بجلاء أن قرار إبقاء السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، هو خطوة لإرغام الخرطوم على الجلوس مع القطاع واستئناف الحوار معه، وفي نفس الوقت محاولة لتعزيز الموقف التفاوضي للقطاع طالما أنه فشل في تحقيق نصر عسكري في أبو كرشولا والاحتفاظ بها تحت الاحتلال، ليدخل المفاوضات وهي أي أبو كرشولا في قبضته!! السيناريو المحتمل ووفقًا للمعطيات أعلاه، وتأسيسًا على ما تقدم، فإن السيناريو المحتمل في المرحلة المقبلة، أن تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية واللوبيات ومراكز القوة المناصرة لخصوم الحكومة السودانية أن تتحرك في كل الاتجاهات لاختراق الموقف الحكومي من المفاوضات مع قطاع الشمال والجبهة الثورية، ويُتوقع بحسب بعض المعطيات أن تتباين المواقف داخل مؤسسات الحكومة وأجهزة الحزب حيال هذا الأمر، وتستجيب الأغلبية تحت وطأة الضغوط الغربية والأمريكية، وتمضي الحكومة نحو التفاوض مع قطاع الشمال. السودان في قائمة الإرهاب إبقاء السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، لم يعد أمرًا مزعجًا لكثير من قادة العمل السياسي والإعلامي بالبلاد إذ ظل السودان في هذه القائمة الأمريكية على نحو «20» عامًا، وقد تجاوز كثيرًا من المطبات والعراقيل التي وضعتها القائمة الأمريكية التي أدرج فيها اسم السودان في أكتوبر 1993 بواسطة وزارة الخارجية الأمريكية، ضمن «8» دول هي: السودان، إيران وليبيا، والعراق وسوريا، والصومال وكوريا الشمالية، وكوبا، وقد خرجت كل من ليبيا والعراق من القائمة، أما العراق فقد خرجت من القائمة بعد الاحتلال الأمريكي لها، وأما ليبيا بعد أن وضع القذافي خده تحت البوت الأمريكي، وأعطى كل ما عنده للأمريكان، ثم استكملت «ليبيا الثورة» بقية القصة... أما قصة السودان مع القائمة الأمريكية للإرهاب فكانت على مدى العشرين سنة الماضية «عصا» في وجه الخرطوم ترفعها الولاياتالأمريكية في وجهها متى ما احتاجت إليها لتخويف الحكومة السودانية التي تستجيب في أحيان كثيرة لهذه العصا الغليظة، في نيفاشا، وفي قبول القوات الدولية، وما إلى ذلك. إحناء الظهر للعاصفة وبناء على ما تقدم يمكن القول إن الحكومة السودانية وفي أوقات كثيرة وعبر مراحل مختلفة، أحنت ظهرها لعاصفة الضغوط الأمريكية، واستجابت لها وقدمت كثيرًا من التنازلات والمطلوبات، وتخندقت في محطات أخرى عندما اكتشفت مؤخرًا كذب الوعود الأمريكية، وأن المحصلة النهائية للتعامل معها هو إسقاطها عن طريق دعم الخصوم. العودة للقاء كرتي كيري وينظر أكثر من مراقب سياسي للقاء من زاوية أبعد تتجاوز فيها الأجندة البُعد المحلي إلى الإقليمي حيث يرون أن الولاياتالمتحدة انتهجت سياسة مستقلة تجاه إفريقيا من خلال التركيز على الدبلوماسية كأداة للاختراق، حيث جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا للمشاركة في الاحتفال بالذكرى ال«50» لإنشاء الاتحاد الإفريقي مثيرة للجدل حيث يرى الكثير من المراقبين أنها تعد أحد المؤشرات الواضحة للأطماع الأمريكية نحو القارة السمراء. وقد اتخذت السياسة الأمريكية أشكالاً مختلفة خلال العقود الماضية بعد انتهاء سياسة الاستعمار التقليدي، فيما تسعى إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتوسيع نفوذ الولاياتالمتحدة في القرن الإفريقي من أجل إبعاد الصين المنافس الآسيوي لها في القارة. وتتكشف الأهداف الأمريكية من خلال حث كيري للشركات الأمريكية على الاستثمار في إفريقيا كشكل من أشكال الدبلوماسية التجارية للتسلل إلى القارة الإفريقية، ويأتي التأثير على منابع المياه أحد أهم الأهداف غير المعلنة للسياسة الأمريكية وخاصة منطقة النيل الأزرق، إضافة إلى سياسة أوباما تجاه حركات التمرد الإفريقية والتي يسعى فيها لزعزعة الأمان والاستقرار في القارة حتى تدعم الوجود الأمريكي العسكري والاقتصادي، وكانت مشاركة واشنطن في النزاعات داخل القارة بدءًا من السودان وحاليًا في مالي متعاونة مع فرنسا دليلاً آخر على الاستمرار في السياسة الأمريكية الواضحة للسيطرة على إفريقيا وذلك من خلال إشاعة خطر حرب العصابات في القارة السمراء والتي تتخذها الولاياتالمتحدة ذريعة لمتابعة تدخلها في جميع أنحاء إفريقيا ووفقًا لمسؤولي الاستخبارات الأمريكية فإن وزارة الدفاع تقوم بشن هجمات في أجزاء متفرقة من القارة من بينها مالي والنيجر، وحسبما أكدت صحيفة نيويورك تايمز فإن واشنطن تقوم بإنشاء قاعدة عسكرية بالنيجر للطائرات بدون طيار يوجد بها ما لا يقل عن 300 جندي أمريكي، وتقول وزارة الخارجية الأمريكية إنها تُستخدم لمهمات الاستطلاع فقط فيما أوضحت الصحيفة أنها لا تستبعد إجراء الضربات الصاروخية في بعض المناطق الإفريقية. مبعوث أمريكي للسودان وفي تحول ملحوظ اتجهت الخارجية الأمريكية إلى الاهتمام بالأزمات التي تواجه الولاياتالمتحدة في إفريقيا، وهو ما أكده حضور كيري لقمة الاتحاد الإفريقي في إثيوبيا حيث عقد سلسلة من الاجتماعات الثنائية مع قادة الدول الإفريقية بما فيها إثيوبيا، نيجيريا، ومصر قبل أن يتوجه إلى الأردن لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي، وأشارت صحيفة هافنجتون بوست إلى أن مسؤولين أمريكيين يؤكدون أن فحوى الزيارة الخاطفة لكيري إلى إفريقيا توضح قلق واشنطن من التنمية الاقتصادية، وقضايا السلام والأمن في القرن الإفريقي وذلك قُبيل زيارة أوباما في يونيو المقبل والتي ينتظرها بشغف لزيارة تنزانيا وجنوب إفريقيا، والسنغال الشهر المقبل، حيث تهتم أمريكا بالانتخابات القريبة في القارة والأزمة الحالية في مالي، وتوسيع نفوذ العناصر المرتبطين بالقاعدة في الدول المجاورة لمالي، وأيضًا استمرار التوترات بين شمال وجنوب السودان من ناحية وقطاع الشمال من الناحية الأخرى والتي تؤثر على أسواق النفط العالمية وكل تلك القضايا هي التي تعرض لها كيري في مناقشاته مع القادة الإفريقيين وفي خطوة غير مسبوقة قام كيري بتعيين مبعوث خاص للسودان وهدفه المعلن هو المساعدة في التوسط في حل الاشتباكات بين السودان وجنوب السودان وتسريع الحوار مع القطاع وهو مؤشر واضح لاهتمام أمريكا بالوجود في خضم المشكلات الرئيسية للقارة. صحيفة الإنتباهة