لمن يسأل عن الوصف الأمثل لحالهم؟ هؤلاء تسكنهم غصة.. محالهم كانت تضج بنشاط الحياة الجميلة، والآمال الجيّاشة تعتمل في نفوسهم، لكنها، بين ليلة وضحاها بدت خاوية على عروشها؛ تحوّلت إلى ركام تهاوى بعضه على بعض.. مع سقوطها سقطت أمانيهم وأشواقهم، ومن قبل ومن بعد؛ تهاوى مصدر رزقهم. التجار وأصحاب الطبالى حتى السيدات بمتاجر الإستاد كلهم يقلبون أياديهم حسرة على ما آل عليه حالهم وأحوالهم، بعد قرارات المحلية بإزالة مصدر لقمة عيشهم، باتوا لا يعلمون أين يتوجّهون؟.. (اليوم التالى) كانت هناك ووقفت على معاناة هؤلاء الغلابة. في السوق كانت مشاهد الإزالة واضحة جداً.. الزنك المتساقط يجعل من المكان وكأنّ زلزالاً ضربه، او إعصاراً مفاجئاً دهمه.. وسط الأنقاض جلس شابان وشيخ كبير، ثلاثتهم صامتون وهم يجلسون تحت كشك مقلوب رأساً على عقب، سألتهم عن أصحاب المحلات المزالة هذه، أجابنى أصغرهم بحدة: "نحن أصحاب المحلات، أها في شنو؟" كانت نبرة صوته تنضح بالعداء لكلّ شيء.. هدأت من روعه فاستجاب للحديث قائلاً: نحن لا نعرف شيئا، فقط فوجئنا بالجرارات تكسر محلاتنا، ونحن الآن منهارون تماماً وليس لدينا رغبة في الحديث وأي حديث غير مفيد.. المحليّة كسرت محلاتنا وقطعت عيشنا، وحتى بضاعتنا تمت مصادرتها، وأضاف بالقول: أنا أعول ثلاثة أسر، أسرتي وأمي وأسرة أخي المريض، وما عارف أقول ليهم شنو؟ مافي أكل؟ مافي مواصلات؟ مافي عشاء؟ من وين أجيب؟ وسقطت من عينه دمعة.. هنا تدخل رفيقه بالقول لعلّه يسهم في إكمال ما عجز عن البوح به: "إلا نسرق بعد دا" قبل أن يغادر بعدها دون أن ينبس ببنت شفة. على مقربة منهم تقف السيدة حواء، فى نهاية الخمسينيات كما يشي ملمحها.. قالت لي: "يا بتي والله ما فهمت الحاصل شنو؟ أشوف السوق كلو قام، بقيت أقع وأقوم، لليوم دا جسمي بيرجف، ولا في زول أنذرنا ولا عارفين شي.. أنا عندى تربيزة، وبعول سبعة عيال، وراجلى عندو وجع ركب ما بيشتغل". كيف حصلتم على التصاديق؟ ألقيت بتساؤلي أمام إحدى الشابات -رفضت ذكر اسمها- فقالت إنّهم يحصلون عليها من المحلية برسوم 1500 وأضافت: ندفع إيجارا شهريا 300 جنيه، وأثناء حديثى أتت موجة غضب: "إن شاء الله يتعفصوا عفيصة دكوة" التفت لمصدر الابتهال فلمحت شابة فى العقد الثالث من عمرها تبيع البهارات والدكوة، قالت لي: "السوق دا كلو بشهاداتو، ما لاقين شغل.. لما نشتغل فى السوق يلاحقونا بالكشات، أنا مجبورة على الشغل بقعِّد أطفالي بهدوم المدرسة في السوق عشان أشتغل". أحد المتضررين قال: "ما عارفين السبب بس اتفاجأنا بوقوف الجرارات أمامنا وها هي مثل الزلزال" مضيفاً: "والله بقيت ما بشوف، ولكن يتردّد أنّ السبب له علاقة بالصحة البيئة، وأن هذه المحلات تسبّبت فى تلوث البيئة". حول الآثار الاجتماعية لإزالة هذه المحلات استنطقت (اليوم التالي) الأستاذة ثريا إبراهيم الحاج، الاختصاصية الاجتماعية والناشطة في حقوق المرأة والطفل، فقالت: العالم كله يوجد به باعة متجولون ويمكن تحويلهم لأماكن نظيفة ومنظمة وذات مظهر صحّي تحت إشراف المحلية والتنسيق بين الجهات المختلفة لأن المحليات لا يمكنها منعهم، وأضافت: هنالك مشكلة كبيرة جدا هي أنّه في بعض الأحيان تتم الإزالة لمحلات مصدقة ولا يوجد تسيق مع الجهات الداعمة، والمعالجات التي تتم بهذه الطريقة تورث المواطن الغبن وتزيده فقراً على فقر، وتكرس القهر بداخله، وربما تكون سبباً لكثير من الأمراض الاجتماعية المنتشرة، بل وتكلف الدولة أعباء إضافية تتمثل فى رعاية السجون وقد ينجم عنها تشرد الأسر واستغلال النساء حال فقد رب الأسرة عمله، ولربّما تنتج جراءها حالات طلاق، يجب أن يكون هناك تخطيط وتنسيق كبير، وأن تكون هنالك بدائل مرضية للمواطن زواهر الصديق: صحيفة اليوم التالي