باتت قضية التعامل مع تداعيات قرار محكمة الجنايات الدولية، مجالا خصبا لبحوث ودراسات ونقاشات المحللين والقانونيين والسياسيين، فقد تحولت القضية من مسارها القانوني الى أن تصبح موضوعا مثيرا للجدل بين القانون والسياسية، حتى يكاد المراقب أن يصفه ب»الوضع المتناقض»، ففي الوقت الذي أعلنت الحكومة في أكثر من مناسبة، إصرارها على عدم التعامل (مطلقا) مع محكمة الجنايات الدولية، تعود مرة أخرى للحديث عن البدائل القانونية لمجابهة المحكمة. وهذه المرة تطرح الحكومة مسارات «هجين» قانونية وسياسية، تتعلق بإستخدام المواد القانونية الوطنية والدولية التي توفر لرئيس الجمهورية الحصانة من الملاحقة القضائية الدولية، وفي ذات الوقت تدرس كيفية تشكيل لوبي اقليمي ودولي لتبديد السند السياسي لمحكمة الجنايات الدولية، وشعار «إعادة الاستعمار» في حملة كسب المساندة الافريقية والعربية والاسلامية، واستخدام نموذج الولاياتالمتحدةالامريكية، المتشدد ضد «العدالة الدولية»، لكن هذه المسارات لن تفلح في تخطي قرار لاهاي، رغم أن عدداً من القانونيين يعولون على المسار القانوني الداخلي، وأعيد في هذا الخصوص مقترح إتحاد الدول الافريقية « العهد الافريقي للعدالة الجنائية والمصالحة». ويعضد كون هذه المسارات جزء من سيناريوهات الحكومة، أنها طرحت من قبل رئاسة الجمهورية في ورشة نظمتها امس بوزارة الخارجية أمانة الشراكة الجديدة لتنمية افريقيا التي يمثلها عن حكومة السودان المفوض بدر الدين سليمان، فقد تناولت الورشة، الاتفاقيات الثنائية للحصانة من محكمة الجنايات الدولية، أو مايسمى» اتفاقيات المادة (98)، ونموذج قانون حماية المواطنين الامريكيين الذي يقيد تعاون الولاياتالمتحدة مع المحكمة الدولية كتعديل لقانون تفويض العلاقات الخاررجية لعام 2001م. وتنص اتفاقيات الحصانة الثنائية على ان المسؤولين الحكوميين الحاليين او السابقين والافراد العسكريين الآخرين «بغض النظر عن كونهم مواطنين للدولة المعنية أو من غير مواطنيها» أو المواطنون لا يتم تسليهم ليخضعوا لسلطة محكمة الجنايات الدولية. وترى العديد من الحكومات والمنظمات غير الحكومية وخبراء القانون الدولي ان الولاياتالمتحدة تسئ استخدام المادة 98 من نظام روما الاساسي الخاص بالتعاون فيما يتعلق بالتنازل عن الحصانة، ويقول الخبراء القانونيين إن اتفاقيات الحصانة الثنائية مخالفة للقانون الدولي. كما وزع مقدم الورشة اقتراح حكومة نيجيريا في قمة الاتحاد الافريقي في منتصف مارس 2005م، والذي عرف ب» العهد الافريقي» الذي يدعو لمحاكمة منتهكي حقوق الانسان المزعومة في دارفور واولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب في الاقليم، متزامنا مع بدائل لابراء الجراح وتحقيق المصالحة بين الاطراف المعنية، وهذا الاقتراح يؤكد على العدالة والمصالحة كعنصرين اساسيين ضمن مبادئ الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب. وفي الجانب السياسي، عرض مقدم الورشة المفوض بدر الدين سليمان تقريرا عن اجتماع مجلس الامن رقم 5158 الذي اصدر قرار رقم 1593 احال بموجبه الموقف في دارفور الى مدعي محكمة الجنايات الدولية. وركز على وثيقة بيان مجلس السلم والامن الافريقي الذي اجازه في دورة انعقاده في يوليو 2008م، الذي التزم بمبدأ «عدم الافلات من العقاب»، ويؤكد ايضا بأن النظام الذي يعاقب على الجرائم دون ان يسعى لإبراء الجراح والمصالحة الشافية بين اطراف النزاع لا يمثل الحل الافضل لمعالجة الازمة السياسية الحرجة في منطقة دارفور. وسرد بدر الدين سليمان مقتطفات من المبادرة الافريقية التي رأى ان فيها الحل للازمة مع المحكمة الدولية، مشيرا الى ان المبادرة ركزت على تجربة جديرة بالنظر( مفوضية الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا) والتي تركز على معاني العدالة واستعادة الحقوق الجماعية وكشف الحقائق والتعافي المتبادل وتطهير النفوس وابراء الجروح ومحو الضغائن بديلا من العدالة العقابية والعدالة الانتقامية. وقدم سليمان على حضور الورشة، مقتطفات لخطاب رئيس الجمهورية امام نظرائه الافارقة خلال محفل الآلية الافريقية لمراجعة النظراء، مشيرا الى ان الرئيس اعرب عن أسفه، ان المبادرة الافريقية التي وصفها بانها صادقة وفعالة لم تجد الآذان الصاغية ممن لا يولون اهتماما حقيقيا لصوت افريقيا ولقيم افريقيا ولكرامة افريقيا. وركز سليمان خلال عرضه لإعلانات ومواقف الاتحاد الأفريقي والآلية الافريقية لمراجعة النظراء، وخطابات رئيس الجمهورية في المحافل الافريقية، على تأييد السودان، لاقتراحات الوسطاء لإجراء المصالحات لجرائم الحرب على هدى التقاليد الافريقية وتحكيم القضاء الوطني، وضرب مثلا بالتجربة الاوغندية في هذا الخصوص، وقال إن خطاب الرئيس البشير امام إجتماع الآلية الافريقية لمراجعة النظراء بشرم الشيخ في يونيو الماضي، أشاد بتعامل الرئيس الأوغندي لإحتواء الاضطرابات واختلال الامن في شمال اوغندا. وفي الورشة قدم وزير العدل عبد الباسط سبدرات مرافعة قانونية وسياسية « هجين»، وتحدث عن التداعيات المباشرة لقرار محكمة الجنايات الدولية بتوقيف الرئيس عمر البشير، مشيرا الى المادة 58 و59 من قانون روما الذي استندت عليه المحكمة في تأسيسها، وقال ان المادتين تتحدث عن الاجراءات المتبعة في مثل هذه القضايا، وان المادة 98 التي تتحدث عن حصانة الرئيس. ورأى ان اسرائيل عدلت من قوانينها لحماية رئيس الوزراء السابق اريل شارون الذي واجه تهما بارتكاب جرائم ضد الانسانية. وقلل سبدرات من تأثيرات قرار محكمة لاهاي، مشيرا الى زوال تأثير قرار توقيف الوزير احمد هارون وعلي كوشيب، وقرارات مجلس الامن العديدة بشأن السودان ومن بينها القرار رقم 1044 المتصل بمحاولة إغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. وعاد وزير العدل ليصف قرار محكمة لاهاي، بأنه مؤامرة، ومحاولة تركيع للسودان، ولا تستهدف شخصاً وإنما وطن، على حد قوله. من جهته، إقترح الدبلوماسي حسن عابدين، ان تبذل مزيد من الجهود لتشكيل جبهة اقليمية ومع المنظمات الدولية المؤيدة لموقف السودان، لتوسيع دائرة مناهضة محكمة الجنايات الدولية، وللدفاع عن العدالة التقليدية، وتوطيد مفهوم « لا عدالة بلا سلام» والعكس. وانتقد عابدين الاتجاه السائد في وسط الحكومة بعدم رغبتها في اللجوء الى المادة 16 من نظام روما الاساسي، والذي يسمح لمجلس الامن بتجميد قرار محكمة لاهاي، واقترح تزامن اتجاه رفض التعاون مع المحكمة الدولية، وتأييد اتجاه الاتحاد الافريقي والعربي الرامي الى تجميد قرار لاهاي لاعطاء مناخ افضل لاستئناف مفاوضات السلام بدارفور. وفي خضم الآراء القانونية والسياسية، تحدثت في الورشة مستشارة رئيس الجمهورية الدكتورة آمنة ضرار، معتبرة ان قرار المحكمة الدولية، تعبيرا قديما للنزعة الاجنبية في استعمار البلاد، ودعت الى وحدة السودانيين في مواجهة المشكلة، ورأى المستشار في وزارة العدل ورئيس مجلس حقوق الانسان عبد المنعم عثمان محمد طه، الاستعانة باطراف خارجية» افريقية او عربية» في مراقبة المحاكمات التي تعقد بخصوص الوضع في دارفور. وشهدت الورشة مداخلات عديدة، أبرزها، الاقتراحات التي دعت الى الاستفادة من التعبئة الوطنية والمساندة الدولية التي حظى به موقف السودان من محكمة الجنايات الدولية، واستكماله بجهود دبلوماسية على صعيد الجمعية العام للامم المتحدة. ونادى بعض المشاركين في الورشة، بطلب الرأي الاستشاري من الجمعية العام للامم المتحدة، ومناهضة المحكمة عبر جهة دولية او اقليمية، فضلا عن الاستفادة من الموقف الافريقي بشأن الحصانة، ايجاد تسوية شاملة لقضية دارفور، وتوطين المحاكمات، بناء على جهود اللجنة الوطنية التي شكلت في السابق برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف.