يصحو (محمد أحمد) يومياً على كم من التصريحات يطلق فيها المسؤولون السياسيون العنان لكلماتهم وعباراتهم، قبل أن تتلقفها صحف الخرطوم وتضجّ بها الأسافير؛ بعضها تخالطه الشائعات، وتدخل حالات السخرية والتندّر على بعضها الآخر. لساسة الخرطوم على ضفّتي الحكم والمعارضة ألسنة شداد تدلق كل يوم الكثير من التصريحات التي تصيب ساكنيها وما جاورها من الولايات بالحيرة. والحال كذلك فإنّ المشهد السياسي في البلاد تكسوه حالة الربكة تلك، تارةً إثر أخبار يطلقها بعض الساسة من الضفّتين ومرة إثر تصريحات تأتي هنا وهناك، بعضها يناقض الواقع، وبعضها الآخر يلقي بظلال سالبة على الأوضاع السياسية والاقتصادية على صعيديها الداخلي والخارجي. المعلومات التي يتفوه بها بعض السياسيين تشي أحيانا بأنّ المسؤول هذا أو ذاك لم يع ما يقول، أو أنّه أراد إرسال رسائل لم يتخيّر سياقها المناسب، ليأتي في صبيحة اليوم التالي محاولاً إيجاد مخرج لما قيل، ربما لثبور جرّه عليه ذاك التصريح أو تلافياً لغضبة هبطت عليه من حيث لا يدري؛ ربما تتهدّد تلك التصريحات منصب أحدهم، أو لربّما تجرّ على البلاد المزيد من الويلات، وتضفي المزيد من التعقيد بدلاً عن كونها تنزّلت للتفسير! التصريحات بالطبع تعمل بشدّة من خلال وسائط التواصل الاجتماعي كون البراح متاح ل(التريقة)، وقاموس الألفاظ هناك لا تحدّه أي سقوفات في التعاطي، ليجد بعضهم نفسه مسار تندّر، لتبدأ رحلة التصويب مع تضارب المعلومات بما يغذي مساحات الشكوك والطعن في مصداقية كل ما يقال. * الكل يتحرك.. لا ساكن إلا الحوار نفسه! حسناً، الربكة أحياناً ليست بسبب التصريحات المنقوضة، أو غير المضبوطة، بل بداعي تلاقي النقائض وتجمعها في مسار لا تجيده إلا السياسة السودانية وحدها! لنستدل على ذلك بمشهد الحوار الوطني القابع في قلب الضبابية المشار إليها، والتي تغطي سماء الساحة السودانية، فمنذ إعلان الرئيس البشير ابتدار العمليّة في خطابه المتعارف عليه بخطاب (الوثبة) بدأت ملامح التناقضات تطغى على المشهد، فبينما أعلنت بعض القوى المعارضة رفضها القاطع تخيرت أخرى المضي بالحوار إلى نهاياته. كان المؤتمر الشعبي والأمة القومي والإصلاح الآن أقوى مؤيدي العمليّة، قبل أن تأتي تقلّبات السياسة بمتغيراتها إثر حبس أبرز أركان الحوار الإمام الصادق المهدي، ليقبع بين جدران كوبر، ويزيد المشهد تناقضاً بإعلانه التمسك بالحوار! في اتجاه الآخر تربك حركة الإصلاح الآن معطيات السياسة بتعليقها المشاركة في الحوار، ليزيدها الوطني ضبابية بحديث مصطفى عثمان إسماعيل حول أنّ الحوار لم يبدأ أصلاً حتى تعلق الإصلاح الآن المشاركة فيه! في الأثناء، ويوما بعد يوم، يزداد المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة حسن الترابي تمسكا بالحوار على تعثر خطواته. المسألة يفسرها البعض بمخاوف تسيطر على الحزب الإسلامي من مصير مجهول بضرب البلاد، بحسبان ما يجري في الجوار الإقليمي. أما ما يزيد المشهد تناقضا ويفتح باب التساؤلات على مصراعيه فقبول حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم -والمنضوية تحت لواء الجبهة الثورية- المشاركة في الحوار من الداخل، في وقت ترفض فيه الثورية الحوار.. العدل والمساواة التي يصنفها البعض بأنها الأقرب إلى المؤتمر الشعبي المعارض تتخير الحوار من الداخل، والحوار بين مؤيديه ورافضيه لا متحرك فيه إلا تصريحاتهم وساكن ما يبتغون، والكل يتحرك ولا ساكن إلا الحوار نفسه! * الدبلوماسية في منصة التصريحات وزارة الخارجية ربما كانت اللاعب الأبرز في مؤسسات الدولة، لما لها من دور في تشكيل الخطاب السياسي الخارجي. ولعل أبرز ما كسا المشهد ضبابية خلال الأيام الفائتات محاولات بعض الجهات إحراج وجه الخرطوم الدبلوماسي.. التصريحات التي نسبت إلى علي كرتي وزير الخارجية في الصحف السودانية نقلاً عن صحيفة (الحياة اللندنية) التي قال فيها بحسب الصحيفة إنّ السودان رفض إقامة منصات دفاع إيرانية موجهة إلى السعودية، الخارجية عجلت بإصدار بيان صبيحة اليوم التالي نفت فيه أن يكون وزير الخارجية علي كرتي قد ذكر في حديثه للصحيفة أن السودان رفض إقامة منصات دفاع إيرانية موجهة إلى السعودية، وأوضحت الخارجية أن ما قاله الوزير في الحوار المذكور إنه في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على مصنع اليرموك خلال أكتوبر عام 2012 وضمن خيارات تعزيز المقدرات الدفاعية للبلاد طُرح خيار قيام منصات دفاعية إيرانية الصنع على الساحل السوداني من البحر الأحمر، وقد استبعد هذا الخيار حتى لا يساء فهم دوافعه من بعض دول الخليج، وأضافت الخارجية السودانية "إن حديث وزير الخارجية لم يتضمن أبدا الإشارة إلى أن هذه المنصات ستكون موجهة إلى المملكة العربية السعودية"، لتخرج بعدها الصحيفة بتسجيل صوتي تؤكد فيه صحة ما قاله وزير الخارجية وتتمسك بما نشرته. وقبل أن تستفيق الخرطوم من هجمة خارجية يرى كثيرون أنها محاولة للضغط على الحكومة، وجدت الخارجية نفسها أمام معركة جديدة باستخواذ قضية المرتدة (أبرار أو مريم إبراهيم) على وسائل الإعلام الداخلية والخارجية ومحاولات كبريات الدول الغربية استخدامها سيفاً لتسليطه على عنق الخرطوم، وكيل وزارة الخارجية عبدالله الأزرق قال بحسب ال(بي بي سي) إن "الإفراج عن مريم سيتم خلال الأيام المقبلة عبر إجراءات قانونية من خلال السلطة القضائية ووزارة العدل"، ولم تمض سوى ساعات حتى استفاق الشارع السوداني والعالم الخارجي على نفي الخارجية حديث وكيلها عبر بيان صدر عن المتحدث باسمها، بأن الوكيل لم يقل هذا الحديث وسعت الخارجية لتبرئة نفسها من تهمة ربما تلاحقها بأنها تتدخل في عمل القضاء، فجاء التأكيد على لسان وزير الخارجية بأنه لا يتدخل في القضاء وأن الأمر سيتم عبر إجراءات الاستئناف بالقانون، ولم تمض سوى ساعات من تلك التصريحات حتى سارعت (بي بي سي) بنشر تسجيل صوتي لوكيل الخارجية تثبت فيه صحة ما قاله لتحفظ ماء وجهها ومصداقيتها أمام الجميع. الأمر برمته ربما يراه البعض محاولة لإحراج الدبلوماسية السودانية في وجه دول الخليج التي تعتبر علاقة السودان معها على المحك وتسعى الحكومة من حين لآخر إلى إعادتها من التوتر إلى مربع الاستقرار، بينما اعتبر محللون أن تضارب تصريحات وزارة الخارجية السودانية يكشف ارتباك السلطات السودانية، ولم يستبعد المحللون وجود ضغوط من جماعات دينية متشددة دفعت وزارة الخارجية إلى التراجع عن تصريحات الوكيل وضغوط من جهات خارجية غذتها في رأي الكثيرين الشائعات في مواقع التواصل الاجتماعي. * الوالي والعطالة بعيداً عن الخارج قريباً من الداخل قليلاً انتقل مشهد الربكة في التصريحات إلى مربع ولاية الخرطوم، بعد التصريحات التي يقال إنها صدرت عن عبد الرحمن الخضر، والي الخرطوم، قبل أن يسارع الرجل لنفيها، فقد تناقلت الأسافير عن بعض الصحف تصريحا قال فيه الخضر"أي زول ما لقى شغل يجيني أنا مباشرة". ورغم أن مكتب الخضر أصدر توضيحا لاحقا قال فيه إن حديث الوالي بخصوص محاربة البطالة أخرج من سياقه، إلا أن الحملة حصدت تأييد الآلاف من العاطلين عن العمل، وأخذ ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي تصريحات لوالي الخرطوم عبد الرحمن الخضر بشأن الباحثين عن فرص العمل، مأخذ الجد. تصريحات الرجل جرت عليه تحركات ناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي لتجاوز حالة التندر إلى خطوات عملية للتجمع أمام مكتب الوالي إنفاذاً لتصريحاته بعد عطالة تمددت على شرائح واسعة مع ضيق فرص الحصول على عمل، ربما اختباراً لتصريحات الوالي. وقد أطلق عاطلون عن العمل حملة واسعة للتجمع أمام مكتب الوالي صباح اليوم الأحد للمطالبة بتشغيلهم، وبحسب صحف الخرطوم أمس فإن أكثر من 3 آلاف عاطل اتفقوا في صفحة على موقع "فيس بوك" باسم (أنا عاطل/ة)، للتجمع أمام مكتب الخضر، ولم يكتف هؤلاء بحركة التجمع أمام مكتب الوالي رغم المسارعة بنفي تصريح الرجل إلا أن من أخذوه مأخذ الحد هددوا الوالي بإطلاق حملة ضده لإرغامه على التنحي حال نكص عن وعده. * لحن "المياه" منك! تناقضات الحال في ولاية الخرطوم ربما يعكسها مشهد آخر وهو تصريح نسب إلى جودة الله عثمان مدير هيئة مياه ولاية الخرطوم بتصدير المياه إلى دول الخليج.. قبل أن ينزوي صدى كلمات الرجل كانت عدد من محليات الخرطوم تموج في حالات غضب متكررة وفي مناطق متفرقة والمناطق الطرفية والوسطية تشكو وتحتج وتخرج في تظاهرات في الشجرة واللاماب وأحياء أمدرمان والصالحة وبعض المناطق في أطراف ووسط الخرطوم تشكو من عدم توفر المياه، في حين تخرج مياه الخرطوم بحديث عن تصدير المياه للخليج. السكر والأسمنت.. واقع الحال والخرطوم تحدث عن واقع اقتصادي يتحسن، ويخرج وزير الصناعة السميح الصديق، ليؤكد بتوفر سلعة السكر بكميات كبيرة، ويطمئن أنه لن تحدث أزمة أو ندرة في السكر خلال شهر رمضان أو بعده، وقال إن ارتفاع أسعار الاسمنت غير واقعي وضعه تجار السوق بذريعة رفع ضريبة القيمة المضافة. يعاني السودان من موجة غلاء غير مسبوقة وشهدت أسواق الخرطوم ارتفاعا غير مسبوق في أسعار الأسمنت، وقفز سعر طن الاسمنت إلى 1800 جنيه بدلاً عن 1200 جنيه خلال أيام فقط، كما تشهد الأسواق السودانية ارتفاعا في أسعار السكر وشحا في السلعة قبيل شهر رمضان من كل عام جراء المضاربة في السكر واحتكاره. وقد أقر الوزير بوجود مشاكل تواجه المصانع منها مشكلة الطاقة، وأكد أن هذه المصانع تواجه مشاكل الطاقة لأنها تعمل بالفيرنس وبالحجر والبترول والكهرباء مشيرا إلى أنه بنهاية العام الماضي وضمن المعالجات الاقتصادية لأسعار المحروقات ارتفعت أسعار الطاقة ما انعكس مباشرة على أسعار السلع. شماعة التناقضات ربما يقف المواطن وسط كل هذا متفرجاً على ما يجري على تناقضاته، وتتحمل الصحافة ربما جزءاً من هذا الواقع بنفي تتحمله على اقتناع به أو لا من باب المهنية، ويتعلق على شماعة وسائل الإعلام والصحافة على وجه الخصوص كل هذه التطورات، حيناً يأتيها الاتهام من فوقها بعدم الدقة في النقل وحيناً يأتيها من بين يديها بقبول الواقع والتعامل معه على تناقضاته وتقاطعاته! صحيفة اليوم التالي