هناك فرق حِكَاية صَحن شَطَّة ..! منى أبو زيد كلما وقفتُ – ذات امتحان – صامدةً في وجه رياح المظاهر العاتية، التي تعصف بأخضر النساء ويابسهن - فيُسلمهن قيادهن لسطوة (البوبار) اللعين! – كلما وقفتُ مثل هذا الموقف – تذكَّرتُ حكاية (صحن الشطة) الذي سترتْ به أمِّي – في ساعة تعقُّل مباركة- عورة جيبها الذي كشفت حاله مفاجأة قدومي إلى الحياة ..! أتيتُ إلى الدنيا في توقيت حرج .. دفع بوالديَّ – اللذين كانا من خيرة المدرسين، القانعين بخيرات طبقتهم المتوسطة - إلى اتخاذ قرار الاغتراب .. كي يتمكنا من توفير نفقات مستوى معيشة أفضل لأسرة ظلت مكونة منهما فقط لأكثر من عامين .. قبل ينضم إلى ركبها طفلان – يفصل بين تاريخ ولادة كل منهما أقل من عام - ..! وهكذا حَللتُ ضيفة غير متوقعة في بيت لم يكن في أتم استعداده لاستقبال تبعات زيارتي الوجودية ..! في تلك الأيام القاهرة، خرجت أمي بعد نهاية يوم دراسي شاق، مع نفر من صويحباتها المدرسات .. كنَّ قد ألححن عليها في مرافقتهنّ إلى بيت تاجرة (عِدّة) شهيرة بمدينة عطبرة .. كانت (ست العدة) تلك تبيع أطقم العشاء والشاي (البايركس) الأصلية من طراز (الولد والبنت) و(التفاحة) بالتقسيط .. إضافة إلى تلك الصحون العسلية والفيروزية الدامعة، التي كانت موضة رائجة في حقبة السبعينات ..! حدَّثتني أمي كيف كظمت ضيقها في ذلك اليوم .. وكيف قاومت بصعوبة التباهي بشراء العدة، وهي في تلك الضائقة .. بينما كان يأبى كبرياؤها الأنثوي العارم أن تبدو بمظهر أقل من صويحباتها (البوبارات) .. فيخرجن هنَّ محملات بألوان القوارير بينما تخرج هي صفر اليدين ..! ساعتئذٍ – وفي عزِّ محنتها مع حصار البوبار – لمحت أمي صحناً صغيراً .. يتيماً .. لا يشبه ما حوله .. ولا ينتمي إلى طقم بعينه .. رنت بطرفها طويلاً نحو ذلك الصحن الصغير، الذي بدا وحيداً في اختلاف موقفه مثلها .. نائياً عن مزاج الآخرين كحالها.. مستعصماً بعزلته الصامتة، تماماً كشأنها – هي- المتنازعة بين غواية المظاهر وفضيلة التوفير ..! فهمست – بعد لأئ – لصويحباتها، مُدَّعيةً أن لا شيء غير ذلك اليتيم الصغير قد أحرز إعجابها .. صامدةً في وجه (لياقتهن) وخراقة منطقهن .. وبينما ناءت سواعدهن بحمولها الثقيلة .. خرجت هي من بيت (ست العدة) بحملها الخفيف جداً ..! ومن يومها أصبح ذلك الصحن الذي اشترته اتقاءً لهجمة (بوبار) هو الصحن الذي يرافق باعتزاز طعام أسرتها الصغيرة ..! في بلاد الغربة عاشت أمي أعواماً مديدة من الفتوحات المادية بعد أن – ودعت وزوجها مهنة التدريس معاً و- عمل أبي بتجارة رائجة، مكّنتها من اقتناء ما شاء لها من حديث (العدة) وثمينها .. لكنها بقيت – حتى الساعة – تحتفظ بذلك الصحن الصغير .. المبارك ..! الغريب أنه ظل باقياً مقاوماً للكسر والضياع لدواعي الانتقال من مدينة الى أخرى .. ومن بيت إلى آخر .. ظل باقياً في دولاب مطبخها .. ينافس أفخم الطقوم وأثمن القوارير ..! بحكم صداقتنا الوطيدة خصتني أمي بحكايات كثيرة مماثلة .. وكأنها تعيش – عبر ذلك - اعتزازها بقطاف غرسها الطويل .. وكلما كرَّرتْ أمي حكاية صحن الشطة على مسامعي .. منحتُها أذني في خشوع – ليس لدواعي التهذيب/الواجب فقط .. بل – لأنَّ حكايتها تلك، تكتسب في كل مرة، لوناً جليلاً ..! قبل أيام .. وفي أثناء تنقيبي عن شيء آخر، تعثَّرتُ بالصحن الصغير إياه .. فملأتُه عن آخره بالسائل/ الكثيف/ الأحمر/ الحرَّاق .. ووضعته على المائدة .. فضحك بعض أشقائي على منظره الشبيه بغبار التاريخ .. آلمني استخفافهم البريء بالصحن النبيل .. فعاجلتهم .. إنه ليس مجرد صحن .. بل أيقونة صمود في وجه عصفة (بوبار) عاتية ..! وعندما رأيتُ عيونهم غائمة بالدهشة - من بين بخار صحن الفتَّة - قلت لهم، مقلدة ً طريقة أمي في الحكي .. - أنا ما حكيت ليكم حكاية الصحن دا .. ؟! التيار