هناك فرق حلوم و البوص في حِلَّتنا ..! منى أبويد لا شيء ينبئك بصدق عن أحوال الناس و حركة المجتمع كعملية بيع أو شراء لسلعة مستهلكة تكون أنت أحد طرفيها..! مكتسبات عملية التسوق ليس مصدرها البائع والمشتري والسلعة \"محل العقد\" فقط .. بل ما تعكسه وجوه المارة وصيحات الباعة، وتلافيف الحوارات المتبادلة في أثناء المفاصلة، الأمر الذي يعطيك كمغترب ألف جواب لألف سؤال يغنيك عن كتب السياسة والاقتصاد والاجتماع ..! من بين التفاصيل الرتيبة والمتكررة التي نتعثر بها طوعاً أو كرهاً في أثناء التسوق حوارات الشحاذين ذات الجانب الواحد التي يديرون دفتها مع وجوه المارة الصامتة الممتعضة من الحاحهم الرتيب، ومن بين هؤلاء استوقفني ذات مرة شيخ ستيني نظيف الثياب مهيب الطلعة.. لو حضر الصلاة برفقة بعض ذوي الشأن لحلفوا \"بالتقطعهم\" أن يؤمهم للصلاة لوقاره وحسن سمته..! يجلس ذلك الشحاذ الأنيق في صباح كل يوم على عتبة أبواب المحلات المتلاصقة في موقع استراتيجي يتوسط الصيدلية والسوبر ماركت وبائع الخضار واللحم .. ويسمح له بالتالي أن يلاحق أصحاب العربات عند نزولهم منها أو عودتهم إليه بدعاء الشحاذين المعتاد.. إنما بقراءة مغايرة يخرجها بصوت قوي رصين لا تتناسب مهابته وما تتطلبه مذلة السؤال من خفوت و انكسار..! تطورت علاقتي بذلك الشحاذ تطوراً مدهشاً قبل أن تنته، فقد بدأت بدهشتي العظيمة من كونه شحاذاً، ثم تمرحلت إلى إعطائه بعض النقود من باب \"طفي الحجة\" بعد أن كان يصر – في كل مرة- على نقر زجاج العربة بأصابعه الأنيقة النظيفة التي لا تشبه مهنة الشحذة وهو ينظر في عيني بثبات مخيف طالباً المساعدة بلهجة آمرة..! بعد بضع مرات انتزع فيها مني بعض النقود كرهاً بدعوى الفرار من جحيم عينيه، قررت ألا أسمح له بإرغامي على التصدّق على رجل موفور الصحة أنيق الثياب مثله، فعمدت إلى تجاهله، لكنه بات يلاحقني وفي عينه ذات التحدي الصامت.. ولعله كان يعوّل في إلحاحه على نزوع شخصيتي الظاهر نحو حسم القضية – أي قضية – بأقصى سرعة ممكنة.. حتى وإن كانت (لياقة) شحاذ لحوح..! ذات جمعة قررت التسوق في شارع آخر كان يبعد مسافة معتبرة عن الشارع المعتاد، وعند وقوفي كاد يقطع \"نياط قلبي\" استجداء سيدة منقبة تحمل في يدها \"روشتة\" دواء، سألتني المساعدة لدفع ثمن علاج طفلها المريض الذي كانت تحمله برهق وتحميه من حرارة الشمس ب \"بشكير\" كالح اللون بائس المنظر ..! عدت في اليوم التالي إلى موقع تسوقي الصباحي اليومي رأيت ذات السيدة المُنقبة وهي تحمل ذات \"البشكير\" الكالح .. ولاحظت بدهشة اختفاء الطفل .. رأيتها تجلس بالقرب من ذات الشحاذ الستيني الأنيق.. استوقفني كثيراً طابع الجلسة الذي كان يشبه اجتماعات المديرين بموظفيهم.. أثارت حيرتي صرامة (البوص) وجدية رئيس مجلس الإدارة التي كانت تكسو ملامح صديقي الشحاذ الأنيق..! فشعرت – حينها – أنني أمام بعض شخصيات رواية (حلوم) لأستاذنا د. عبد اللطيف البوني.. تلك الرواية التي تحكي ببراعة عن أسرار وعجائب عالم الشحاذين المدهش، وكأنّ تلك الشحاذة المنتقبة (حلوم) وكأنّ ذلك الشحاذ الستيني الأنيق (البوص) الذي يرأسها في شبكة الشحذة .. كانت – على كل حال – من اللحظات النادرة التي قد تطاول غرابة الواقع – فيها - خيال الكاتب ..! التيار