من الطقوس التي أحرص على مزاولتها في أجازتي السنوية التسوق في صباح كل يوم، فلا شئ ينبئك ? كمغترب في الزفة - بصدق عن أحوال الناس و حركة المجتمع كعملية بيع أو شراء لسلعة مستهلكة تكون أنت أحد طرفيها ! .. و مكتسبات عملية التسوق ليس مصدرها البائع و المشتري و السلعة "محل العقد" فقط بل ما تعكسه وجوه المارة و صيحات الباعة، وتلافيف الحوارات المتبادلة في أثناء المفاصلة، الأمر الذي يعطيك كمغترب يتلهف للوقوف على أحوال البلد ألف جواب لألف سؤال في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع ! .. و من بين التفاصيل الرتيبة و المتكررة التي أتعثر بها طوعاً أو كرهاً في أثناء التسوق حوارات الشحاذين ذات الجانب الواحد التي يديرون دفتها مع وجوه المارة الصامتة الممتعضة من إلحاحهم الرتيب، و من بين هؤلاء الشحاذين شيخ ستيني نظيف الثياب مهيب الطلعة لو حضر الصلاة برفقة بعض ذوي الشأن لحلفوا "بالتقطعهم" أن يؤمهم للصلاة لوقاره و حسن سمته ! يجلس ذلك الشحاذ الأنيق في صباح كل يوم على عتبة باب المكتبة التي أشتري منها الجرايد في موقع استراتيجي يتوسط الصيدلية و السوبر ماركت و بائع الخضار و اللحم، و يسمح له بالتالي أن يلاحق أصجاب العربات عند نزولهم منها أو عودتهم إليه بدعاء الشحاذين المعتاد إنما بقراءة مغايرة يخرجها بصوت قوي رصين لا تتناسب مهابته و ما تتطلبه مذلة السؤال من خفوت و انكسار ! .. تطورت علاقتي بذلك الشحاذ تطوراً مدهشاً قبل أن تنته، فقد بدأت بدهشتي العظيمة من كونه شحاذاً، ثم تمرحلت إلى إعطاءه بعض النقود من باب "طفي الحجة" بعد أن يصر على نقر زجاج العربية بأصابعه الأنيقة النظيفة التي لا تشبه مهنة الشحاذة و هو ينظر في عيني بثبات مخيف و يطلب المساعدة بلهجة آمرة ! .. بعد بضع مرات انتزع فيها مني بعض النقود كرهاً بدعوى الفرار من جحيم عينيه، قررت أن لا أسمح له بإرغامي على التصدق على رجل موفور الصحة أنيق الثياب مثله، فعمدت إلى تجاهله، لكنه بات يلاحقني و في عينه ذات التحدي الصامت، و ربما كان يعول في إلحاحه على نزوعي الواضح نحو حسم القضية ? أي قضية ? بأقصى سرعة ممكنة .. حتى و إن كانت "لياقة شحاذ" لجوج ! .. و ذات جمعة قررت التسوق في شارع آخر كان يبعد مسافة معتبرة عن الشارع المعتاد، و عند وقوفي كاد يقطع "نياط قلبي" استجداء سيدة منقبة تحمل في يدها "روشتة" دواء، سألتني المساعدة لدفع ثمن علاج طفلها المريض الذي كانت تحمله برهق و تحميه من حرارة الشمس ب "بشكير" كالح اللون بائس المنظر ! .. و عندما عدت في اليوم التالي إلى موقع تسوقي الصباحي اليومي رالسيأيت ذات السيدة المنقبة و هي تحمل ذات "البشكير" الكالح بلا طفل هذه المرة، و تجلس بالقرب من ذلك الشحاذ الستيني الأنيق، استوقفني كثيراً طابع الجلسة الذي كان يشبه اجتماعات المدراء بموظفيهم، و صرامة (البوص) و جدية رئيس مجلس الإدارة التي كانت تكسو ملامح صديقي الشحاذ الأنيق ! .. فحدجتهما معاً بنظرة صارمة ? ذات مغزى - أودعتها كل ضيقي و حنقي و نفاذ صبري الطويل على إلحاحه المزعج، ثم خاطبتهما قائلة في غيظ : " يا جماعة إنتو بتدخلوا كم في اليوم ؟.. أنا مستعدة أخش معاكم شريكة" ! .. الذي أدشهني و لا يزال هو أن الرجل الذي كان يرهبني بجحيم عينيه بات يتحاشى أن تلتقي عيناي بعينيه، بل و يتظاهر بعدم رؤيتي " و يشيل الهم" كلما تعمدت المرور بالقرب منه كل صباح !