عبدالله عبيد حسن الأشهر القادمة من هذا العام حتى يناير 2011 هي أخطر مرحلة من تاريخ السودان الحديث. كل الأزمات الداخلية والانقلابات العسكرية وسقوط وصعود الحكومات الديمقراطية إجمالاً منذ إعلان استقلال السودان في يناير 1956 وما شهدته البلاد من أحداث وأزمات لا تساوي في كفة الميزان السياسي أخطار واحتمالات وأزمات قادمة في الفترة المتبقية حتى إجراء الاستفتاء حول مصير الجنوب الذي حددت له اتفاقية السلام الشامل شهر يناير من العام المقبل. فالوطن السوداني الذي عُرف بحدوده الجغرافية التي تسلمها أبناؤه من الاحتلال الإنجليزي، مصيره معلق على خيوط واهية. ولو لم يملك أهل السودان - وفي مقدمتهم قادتهم السياسيون وزعماؤهم الروحيون والعشائريون - الحكمة ولم يحتكموا للعقل والمنطق والصواب والعدل فإن مصير (بلد المليون ميل مربع) مهدد بالتمزق والتشرذم وما قد يصحب ذلك من كوارث أقلها انفصال جنوب البلاد. وإذا جرى الاستفتاء في هذا الجو المحموم والمسموم كما هو حادث الآن، فإن عقوداً من الزمان في ظل العيش المشترك للشعبين برغم ما صحبها من أخطاء وجرائم وانتهاك الحقوق وإهدار الدماء لكنها أيضاً خلقت وستخلق علاقات إنسانية وأرحاما مشتركة وصداقات وأخوة ناهيك عن المصالح المشتركة التي ما تزال تربط شطري البلد قانونياً ودستورياً وهي مصالح وممتلكات ومؤسسات \"قومية\" لا مفر من تسوية حساباتها بين الطرفين. لست من دعاة الانفصال وأعتقد صادقاً أن وحدة الشمال والجنوب هي في مصلحة الشعب السوداني كله، وأعرف أن (الوحدة) التي ظلت قائمة ولم تتمكن الحكومات السودانية المختلفة ومعظم الأحزاب السياسية السودانية شمالاً وجنوباً أن تتفهم الواقع المرير - لكنه الواقع على كل حال - بأن السودان بلد متعدد الأعراق واللسان والعقائد، وأن فترة الحكم الاستعماري والسياسي البريطاني، قد ضاعفت من التفاوت في التطور والتنمية بين الشمال والجنوب، وهي تنمية كانت ترسم خطوطها لمصلحة المستعمر الأجنبي. وقد ضاعف من سوء الحال وارتفاع أسهم الانفصاليين الجنوبيين والشماليين بعد الاستقلال أن \"الحكومات الوطنية\"، قد وقعت فعلاً في \"الشرك\" المسمى ب\"التمرد الجنوبي\"، الذي بدأ بتمرد وحدة عسكرية جنوبية في توربت في أغسطس عام 1955، وقعت الحكومات الديمقراطية المدنية في \"الشرك المرسوم\"، وأصبح همها طوال فترات حكمها القصيرة هو الأساس مكافحة التمرد الجنوبي أو \"الانفصاليين\". هذه السياسات أضاعت عقوداً من الزمان من عمر الشعب السوداني، أَهدرت فيه أموالاً لم يعد من الممكن الآن تحديد حجمها وكميتها وأهدرت ما هو أغلى من المال والدماء والأرواح. الآن ليس هو أوان مراجعة الحسابات -برغم أنه لابد أنه سيأتي يوم في التاريخ ويتحقق ذلك- الآن المطلوب هو التفكير الوطني الجاد والصادق في كيفية الخروج من المأزق الذي سيقع في يناير العام القادم... تفكيراً وطنياً تعلو فيه المصالح الحزبية والأنانية. فالاستفتاء سيجري ربما حاولت الحكومة عرقلته وتأجيل نتائجه، خاصة إذا جرى تحت أي ظرف معروفة سلفاً إلا إذا تقدم أهل السودان -على الأقل أغلبية أهل الجنوبيين والشماليين دعاة الوحدة العادلة والمتكافئة- وخرجوا بعقولهم وأفكارهم عن \"المبادرات التقليدية\". سياسيو الشمال المعارضون يعرفون جيداً أنه حتى ولو أراد \"سلفاكير\" و\"باقان أمون\" و\"ياسر عرمان\" أن يحققوا \"الوحدة الطوعية\" الآن بالاستفتاء. فإن الشعب (الجنوبي) لم يعد قادراً ولا مستعداً للعودة إلى السودان القديم الموحد، ولن يقنع بتغير الحال وصول \"سلفا\" إلى منصب نائب الرئيس، أو تولي مواطن جنوبي وزارة البترول. فالثقة المفقودة أصلاً، قد زاد من حدتها وارتفاع وتيرتها \"المؤتمر الوطني\"، وسياساته الهوجاء وغير الحكيمة. الآن -وأمامنا مثل دارفور - أصبح المطلوب مبادرة شجاعة تتجاوز ما نصت عليه \"نيفاشا\"، وتتقدم بشجاعة سياسية حقيقية بمشروع وطني عملي لإعادة هيكلة الدولة السودانية كلها. المأمول هيكلة دولة تلتزم بتنفيذ سياسات وبرامج جديدة، توفر وتفرض بالدستور والقانون الحقوق والواجبات المتكافئة لكل أقاليم السودان. دولة تلتزم القانون والعدل في توزيع السلطة والتنمية العادلة خاصة للأقاليم الأكثر تهميشاً، دولة يجتمع حولها أهل السودان جميعاً. والطريق إلى ذلك واضح، وهو المؤتمر القومي الدستوري الذي ظل مطلب الجميع قبل سنوات، وما يزال هو الطريق الصحيح للخروج من مأزق يناير 2011. الاتحاد