.. [email protected] مدخل: الكتابة جنون جميل.. تماماً كالحب قد يُشقينا قليلاً أو كثيراً.. قد يرهق القلب المتعب.. لكنه لا غنى عنه أبداً، وتبقى أبداً \"الكتابة\" رغبة دائمة في اختراق قلوب الآخرين والتواصل الحميم معهم، ولما كان التواصل طعماً خاصاً فهنا تبقى صحيفة (التيّار) عبقاً جميلاً وأدباً أجمل واهتماماً فريداً بما تحمله قلوب الكثيرين من أبناء الشعب السوداني الذين يقبعون في صمت مؤلم. النص:- أصيغ الموضوع وعيني تنظر بثقب للخطر المقبل من ثلاثة سيناريوهات توضحها ثلاث خُرَطْ ترسم لنا شكل السودان الحالي ما بعد استفتاء الجنوب في مطلع يناير القادم، جميعها مليئة بالمخاطر على إنسان الشرق اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ويبدو أن من عملوا على تصميم تلك الخُرط بعد أن أرهقوا عقولهم في وضعها بقياس المصلحة والبقاء بذلك أرادوا أن يبقى الشرق خلف الشعوب لا أن يتقدم خطوات نحو الإزدهار، برغم ما تختزنه باطن أرضه من ثروات معدنية وبترولية وثروات حيوانية وأراضي زراعية شاسعة ممتدة على امتداد شرق السودان. والكتابة في الأمر لأن حقيقة الصراع في الدولة السودانية لم ولن يكون سياسياً إنما هو في حقيقته صراع جغرافي والاستعلاء الثقافي بفرض ثقافة عرقية بعينها على باقي الشعب السوداني، ولد لنا جميع تلك الأزمات التي أرهقت ومزقت جسد بلدنا حتى كاد يُصبح أرض المليون ميل مقطع وليس مربع، بسبب تلك السياسات التي تتخذها نُخب المستعلين منهجاً في التعامل مع سكان الأقاليم الأخرى. الخريطة الأولى تتحدث عن تقسيم السودان لأربع دويلات رسمت لنا دولة السودان الجنوبي والتي يبدو أنها قد أصبحت واقعاً لا محالة بعد أن تحول حديث قيادات الدولة عن الوحدة الجاذبة إلى التفاوض وجعل الانفصال ناعماً، ونفي أن تقع حروب بين الشمال السياسي ودولة الجنوب القادمة، وتليها دولة دارفور القابعة في أزمة أرهقت الشعب السوداني بأجمعه قبل إنسانها، ويتضح من خلال قراءات واقع سير مفاوضات الدوحة وعدم مشاركة بعض الحركات أنه إن لم تنجز عملية السلام بالإقليم قبل الاستفتاء بالجنوب لابد من أن نثق جيداً بأن شبح الانفصال قادم من دارفور بالمطالبة بتقرير مصير الإقليم وبين الواقع وقتها والقراءة ستنشأ الدولة الثانية. ولم تقف الخريطة هنا بل اتجهت لتتحدث عن دولة شرق السودان وتُعَرِّفُها بولايتي كسلا والقضارف دون ولاية البحر الأحمر التي ستتجه لدولة السودان الشمالي، والسؤال لماذا الولايتان معاً دون الثالثة؟ للإجابة على هذا السؤال نوضح بأن المصيبة الكبرى والخطر الأمني يكمن في ربط هذه الدويلة بحدود مع دولة السودان الجنوبي عبر النيل الأزرق التي ضمها السيناريو للجنوب. وهنا تقف عملية تقدم إنسان الشرق بداية بحرمانه من أن يستفيد من المنفذ العالمي الأوحد لسودان المليون ميل مربع (البحر الأحمر) وأهميته معلومة للجميع، وكذلك منعه من الاستفادة مما تختزنه تلك الولاية من ثروات في باطن أرضها ليكتفي بالمشاريع الزراعية وبعض من أماكن السياحة، ويظل قابعاً في الفقر والأمراض المستوطنة وأزمات أمنية تارة بأطماع قد تجيء إليها من دولة السودان الجنوبي، وإما من دولة السودان الشمالي، وتبقى أطماع دولتي إرتريا وأثيوبيا في العدسة أيضاً فنشوء دولة صغيرة بهذا الحجم لا تملك أدنى مقومات أن تصبح دولة ستواجه العديد من الأطماع الخارجية. وبقراءات متعددة من جوانب مختلفة يبدو أن هذا السيناريو بعيد كل البُعد عن الواقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي والثقافي مع ذلك لابد من وضعه أمام أعين شعب الشرق، فالسياسة لا تعرف سيناريو محدداً قد ينقلب المستحيل ليُصبح واقعاً والمنطقي يُصبح مستحيلاً، وفي كليهما يكون الضياع أو النهضة والتقدم. الخريطة الثانية حكت عن واقع إنسان شرق السودان فرسمت دولة السودان الأوسط شاملة غرب البلاد مع وسط وشرق السودان، ليبقى أقصى الشمال النيلي في دويلة تُعرف بالسودان الشمالي. السيناريو الثاني يبدو أنه سيبقى من ضمن أبعد المستحيلات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لكن إن قبلنا افتراضاً به فإن الدولة ستنهار مستقبلاً، لأن الواقع يقول حينها أن عقلية الاستعلاء الثقافي العرقي ستتولد بين شعب هذه الدولة وتتجدد قصة العروبة والأفروعروبية والأفريقية، فالغرب يتسع بقبائل إفريقية وأخرى عربية وفيه ستستمر الصراعات بين تلك القبائل ويتميز وسط البلاد حالياً بتوسع كبير للعروبة، وهذا أيضاً ما يمتاز به شرق السودان برغم وجود نسبة ليست بالواسعة من القبائل الأفريقية، وهذه أيضاً متأثرة بالثقافة العروبية والأفروعروبية وكل هذا سيولد لنا استعلاءً ثقافياً أشد ضراوة مما عليه واقعنا السوداني في الوقت الراهن. الخريطة الثالثة وهي حجر الزاوية في هذا الموضوع، وقد تُرى بعيون الكثيرين أن سيناريو الخريطة منطقياً لحدٍ ما بقراءات اجتماعية ثقافية سياسية وخرج إلينا السيناريو الثالث بدول السودان الجنوبي ودولة أخرى عرفها بدولة دارفور تشمل في رقعتها منطقة أبيي التي يحتدم فيها الخلاف حالياً، فالخريطتان السابقتان جعلتا من أبيي منطقة تتبع راهناً للشمال السياسي الحالي لتتجه لاحقاً إما للسيناريو الثاني وهو دولة السودان الأوسط أو أن تبقى ضمن حدود الدولة الدارفورية، فالأمر في كل الاحتمالات أنها في نهاية المطاف خارجة عن منطقة سلطة الشمال النيلي وحلم يصعب تحقيقه لدولة الجنوب القادمة. الدولة الأخيرة سَمها بدولة السودان الشمالي جامعاً بين الوسط والشرق والشمال النيلي والمنطقية في هذا قد تكون أكثر واقعية في الخُرط الثلاث، فما يجمع هذه الدولة بين شعوبها كثير جداً، فهناك ما يجمع بين سكانها العديد من الثقافات والعادات والتقاليد وتشابه سحني كبير نجده بين وسط وشرق وأقصى شمال السودان، كما أن التداخل والترابط الاجتماعي أوسع في هذه المنطقة مقارنة بمتبقي مناطق السودان، رغم أن الدين يجمع أيضاً الشمال السياسي (غرب وشرق وشمال) إلا أنه يبقى عاملاً حقيقياً عندما تضاف إليه ما سلف ذكره من الثقافات والعلائق الاجتماعية مما يُحقق التعايش والترابط بين شعب هذه الدولة. السيناريو الثالث يظل النفق المُظلم بعينه لإنسان شرق السودان برغم منطقيته مع الواقع الذي يعيشه في وقته الراهن، فالمُتتبع لأمر إنسان الإقليم يجده قابعاً في فقر ومرض وتدهور في البنيات التحتية والزراعية والتعليمية، فالأمية منتشرة بشكلٍ مغلق للغاية مع انتشار الأمراض المستوطنة في أطراف المنطقة في ظل التدهور الاقتصادي الذي زاد من معاناة المواطنين. هنا يتبادر لذهن القارئ لِمَ هذا السيناريو بمثابة نفق مظلم؟ الإجابة لا تحتاج لبحث كثير، فالسياسات التي تستخدمها النُخب السياسية التي ظلت متربعة على حُكم الدولة السودانية منذ الاستقلال وليومنا هذا من وسائل مختلفة تهدُف للقضاء على بعض المكونات الشرقية بعملية إحلال وإبدال لا تخفى عن عيون الكثيرين من أبناء ولايات الشرق، تنظر إليها تلك النُخب بالخطر الحقيقي القادم ليس للوطن، فالأرض التي يقطنونها هي أرضهم منذ أمد بعيد في التاريخ الإنساني، لكن النظرة تبقى في خطرهم تجاه أمة تلك النخبة وسيطرتها على دفة البلاد وإدارة أمور العباد لما تتمتع به بعض الأممالشرقية من تمدد جغرافي داخلي وخارجي، كان وراءه المستعمر بوضع حدود بين الشعوب، فرقت بين الأخ وابن العم والخالة عن عمتها والوالد عن ولده، فأصبحت العديد من البشرية تعيش بين أوطان قد نسميها بالنشأة وأخرى نطلق عليها بأوطان الرحم، وهنا مكمن الخطر لنخبنا السياسية التي تقوم بذاك الإستهداف. يستلزم أن تعي تلك النُخب بأن ما يجمع بين الشرق والشمال النيلي أوسع من كل النظرات الضيقة، ولطالما أن الصراع هو صراع جغرافي في أساسه ينبقي احترام مجتمع شرق السودان والتعامل معه بصدر رحب بعيداً عن عقلية الإستعلاء الثقافي والإجتماعي، ويجب إزالة تلك العقبات والمتاريس التي توضع أيضاً أمام تمدد إنسان هذا الإقليم بالمجالات المختلفة وتقوية الترابط في النسيج الاجتماعي بدلاً من السعي لتمزيقه بعقلية المصلحة دون النظر والتمعن في العلاقات الاجتماعية والمصالح السياسية وأهمها الإقتصادية بين شعب الإقليم وشعب الشمال النيلي، والعمل على توزيع التنمية بالتساوي بين ولايات الشرق المختلفة وإيقاف سياسة تغيير الخارطة التجارية، بدلاً من اللعب على السيناريوهات الثلاثة، فحتماً حينها سيحدث ما حدث للجنوب وما سيحدث أيضاً لدارفور قريباً والنار دوماً تأتي من مستصغر الشرر. كما على إنسان شرق السودان أن يعي المخاطر المحدقة به من كل الاتجاهات، وجميع المؤامرات التي تحاك ضده وما هي إلا لإستئصاله من الخارطة السودانية نهائياً والعمل على تمزيق نسيجه الاجتماعي، والعمل جميعاً على أن يكون الهم واحداً ومشتركاً بين الجميع. نعم يمكن الاختلاف سياسياً أو اجتماعياً لكن ينبغي الاتفاق على المصلحة الشرقية سكاناً وأرضاً بحدودها الجغرافية المعروفة منذ الممالك القديمة التي كانت تسيطر على هذه المناطق، ويجب ألا تتوقف محاولات توحيد الجهود حتى يشعر ويلتف المواطن البسيط أمام التغيير الذي يحبذه بوسائل تختلف من موقف لآخر. كفى .. وسنلتقي ..