عتبة دار الطريق : بنطون الباوقة!! عبد الغني كرم الله ابتعدنا عن العبيدية، النهر شمالنا، بل يميننا، كلتا ضفتيه يمين، فلاحين قرب صديقهم الأبدي، يبكوا حين يبكي، ويفيض قلبهم بالسرور، حين يفيض ويردم بالطمي حلمهم الأسمر بالزرع، والضرع... فتايات صغيرات، هنا، وهناك، يلعبن بين الجداول، واحدة تتكئ على أختها، من ثقل الصداقة، وهن يراقبن دودة ملونة، تتسلق ورقة سعدة، خوف الغرق في الجدول، فتنثي السعدة، من ثقل الدودة، تنحني الصغيرة، وبعود جاف، تمده للدودة، (مثل حمامة ايسوب، التي رمت ورقة للنملة الغريقة)، الدودة تتسلق العود الجاف، وتمضي سعيدة، وهي تمد جسدها، وتلمه، كقطار أخضر، حمل البلح للثغر، والكمر، والحديد للسافل. رجل عجوز يراقب ارتعاش الجدول، من حصى ببطن الجدول، يمد يده، ويغير موضع الحصى، فتغير الأمواج في السطح شكلها، يحس بالأيام الغائرة، أيام الجزيرة، تلكم الحصى الملساء في قعر ذاته، (كل شئ يمضئ)، حتى مويجات الجدول، تأتي من النهر، وتركض في الجدول، وتنام في بطن الأرض، مع لمة جذور، تمصها كرحيق للحياة، ثم تتسلق الساق والجذع، حتى هامات الشجر، من يعرف المصير؟ سوى الواحد الأحد، يحدق العجوز في نخلة عجوز، مثله، كم مرة أينعت وأثمرت، وأين مضى بلحها، وبركاويها، كم طفل وعجوز، خارج وداخل البلاد تذوقت طعم ترابه، ترابه الذي يغرس فيه الآن مركوبه العتيق، ما أعطم هذا التراب، ألهذا تحب الحوامل التراب، والطين، كي يحن الجنين للأمل، للأرض، وهي تغير ملاءتها كل صيف وشتاء وخريف. هناك فلاج منحني، أراه من بعيد، يرفع سرواله، وينكب على عمله، هواء تسلل من فرجات النخيل والقريب، ينخف سرواله، وهو منحني، يبدو كنعامة، برجليه النحيفة، وهي تغرس منقارقها في الأرض، طوريتها في الأرض.. وبعد ربع ساعة، كدت أسأل، متى بدأ هذا العرض الساحر؟ يساري، بدت ضفة النهر، من تلاثغ أمواجه، تتراقص ببروق فضية من بعيد، فضة ترتعش، ، يلمع الموج وعلى رأسه ثوب فضة، فضة لينه، تكاد لا تقسط من مهارته، يطلع، ويندس، خجول، من مهارته، يلهو، ملاءة يهزها نسيم عليل، والأشجار تمد رأسها، بفضول، غيره من سحر النهر، فتصبح إطاراً أخضر، حي، لهذه الفضة اللينة، التي تشع، كروح للنهر الخالد، ياله من عرض ساحر، مجاني، لم يدق جرس له، أو مجرد إعلان على هامات السحب البيضاء، والتي تمشي بمهل وحكمة فوق النهر، من الجهبة الغربية،، (مهرجان الفضة الحية على رؤوس الأمواج)، وذلك البريق الذي يغشى العين بسحر غامض، سحر ألف موجة موجة، تحس بشاعرية الكون، بأسره، نسينا الوقت، والهم، بمشهد النهر الآسر، كنسوة يوسف أمام أسر جماله، حتى أقتربنا من \"القيفة\"، أنحنى اللوري، بخشوع جميل، وكأنه في حالة ركوع (للنهر، أم لرؤس جنة جناين البلاد، غرب النهر، حدائق الباوقة، أم لهؤلاء البسطاء المنتظرين، لست أدري، سوى أني ثمل بالخمر الحلال، مدى الأفق. نزلنا القيف، وركبنا بنطون الباوقة، أحسست بهدهدة البطون، قد يتهادى اللوري، قد تهتز السيارة، ولكن لاهتزاز البنطون في بطن النهر، حنان غريب، يهز الموسيقى الكامنة فيك منذ ملايين السنين، تحس بأنك طفل (كماء الرحم الذي سبحته في بدء النشء)، يضفر خصلة مع كل شئ، ما أعذب النهر، رقيق، وباسم، يحمل على ظهره السفن، والقوارب، واهن وعظيم، معا، (هين تستخفه بسمه طفل، وقوي يصارع الأجيال) يهتز باتزان، يلتصق البعض مع البعض، كروح واحدة، إذا ثمل عضو، تداعى سائر الجسد بالفرح والثبور، اهتزاز نبيل، مرهف، يدرك عمق الدغدغة، وكأنها انامل حبيب، تجبر رهق الاجسام المرهقة، بالرزق، والسعي، والتفكر، احتشد البنطون بالناس، مشارب قوم، استدرجهم من هناك وهنا، كبركة ضمت قطرات الماء المتنافرة، كي توحد مشاعر شتى، في جسم واحد، ومصير واحد، فتيات، ورجال، وطالبات، وحمير، وبكاسي، وأشواق، وتجارة، وزيارة، ومديح، وحج،، وماء النهر يحمل كل هذا المجد، ببساطته المعروفة، وهو ينزلق من الحبشة، ومن الجنوب إلى ربوع الشمال الجميل، ثم يبتعد البنطون عن الضفة الشرقية، ويمضي نحو الغرب، أنظر للماء تحت، وأعجب، رغم انف ارخميدس، كيف حلمت اللوري معنا، أيها الشاعر الشفيف القوي، هبة النيل، تبدو من جهة الغرب اشجار النخيل الخضراء، في استقبال الضيوف والاهل والتجار منذ عاد، هكذا تقف ديدبان، ورسول، وفي بطن البطون تسمع سلام، لأهل جمع بينهم، وأصدقاء تفرقت بهم السبل، ونساء جرت سنوات وأحداث في حياتهن، كل في فج، وكان البنطون مسرح اللقاء، ونبش كنوز الذكريات البسيطة، الثمينة، معا. لاشك تأسرك العيون، التي تأوي شوق ما، لبنت، أو زوجة، صديق أو خطيبة، كل النفوس ترنو إلى الوصول، لدفء البيت، والأهل.. وفي الدرب، توقد لهيب الشوق.. .